:: ونجتر الذكرى، ليس للتذكير، بل في ثنياها (حدث راهن). قبل ثلاث سنوات، كاد قطاع الطب بالسودان يحتفل بإجراء أول (عملية زراعة كبد).. جاء بعض أبناء السودان بالسعودية بهذا المشروع، ليس لحاجة مرضانا فقط، بل لحاجة مرضى دول الجوار الأفريقي أيضاً، فالغاية كانت أن يصبح السودان مركزاً إقليمياً لزراعة الأعضاء.. تعاقدوا مع وزارة الصحة المركزية بعقد تكافلي يضمن علاج (15%) من مرضى مشافي السودان مجاناً، وكذلك تعاقدوا مع مستشفى الخرطوم بعقد تكافلي يضمن علاج (10%) من مرضى الخرطوم مجاناً. :: جهزوا مستشفى ابن سينا بالعدة والعتاد، واستجلبوا الكوادر الأجنبية، وكذلك الكفاءة السودانية المقيمة بالسعودية وألمانيا.. وزاروا المشافي التي فيها تتوجع (أكباد الناس)، ومنها جعفر بن عوف، الملاذ المؤقت لأطفالنا لحين الرحيل إلى رحمة مولاهم، (3/ 4، شهرياً، معدل وفيات أطفالنا بداء الكبد).. وقفوا على الحالات الحرجة، واختاروا (12 مريضاً)، نصفهم أطفال.. تم تشخيصهم بمعامل الرياض والقاهرة وألمانيا، بتكلفة تجاوزت (25 مليون جنيه)، وكان سعر الدولار جنيهيْن ونيفاً.. لم يدفع ذوو المرضى جنيهاً، فالمشروع (كان تكافلياً)، ومن تم اختيارهم كانوا من (المتعففين). تم تجهيزهم طبياً ونفسياً، ثم تم تجهيز غرف العمليات، وأعلنوا (موعد العمليات).. وبثوا برنامجاً "فرايحياً" للمشروع بقناة (النيل الأزرق). :: ولكن، البنيان لا يكتمل في بلاد مراكز قواها تتقن (فن الهدم).. قبل موعد العمليات ب(24 ساعة)، فاجأ وزير الدولة بالصحة - اللواء طبيب حسب الرسول بابكر - الناس والبلد والمرضى وأسرهم والكادر الطبي وإدارة المستشفى؛ فاجأهم جميعاً بقرار (تجميد المشروع) و(إيقاف كل العمليات).. ولم يكتفِ الوزير حسبو بهذا، بل نجح في إقناع النائب الأول لرئيس الجمهورية - الأستاذ علي عثمان محمد طه - بعدم جدوى المشروع، وتم ذلك في إطار صراع (مراكز القوى).. ومات المشروع قبل أن يُولد، ومات ثلاثة أطفال في ذات (شهر التجميد).. وتجمهرت أمهات الأطفال أمام القصر الجمهوري احتجاجاً على إيقاف المشروع، وبحثاً عن (أمل الشفاء). :: يومها، تألمت وقصدت وزير الدولة سائلاً عن السبب (وأد المشروع)، وكان معه بالمكتب الدكتور معز حسن بخيت، ولم يكن ناطقاً رسمياً بالصحة الولائية، بل كان نافذاً بأمانة الصحة بالحزب الحاكم، ومناصراً لهذا الوزير في (وأد المشروع).. سألته عن سبب تجميد المشروع، فقال بالنص: (ياخ إنت مستعجل ليه للمشروع ده؟ نحن ح نعملوا بشكل كويس في مدينة البشير الطبية).. غادرته معتذراً: (أنا آسف، كنت مفتكر موت الشفع ديل ح يكون دافع قوي لاستعجالك إنت أكتر مني). ومات المشروع، وأعاد الشباب السوداني القائم على أمر المشروع تصدير الأجهزة والمعدات، وتم إلغاء عقودات الكوادر.. ثم، فازت به - بعد شهر من تدميره بالسودان - سلطنة عمان، بشراكة ذكية وترحاب بلغ حد تمليك المشروع قطعة أرض - مجاناً - بمدينة صلالة، وتم الافتتاح.. ويوم الافتتاح، اقترحت للشباب السوداني دعوة الوزير حسبو، ليكون ضيفاً في حفل كان يجب أن يكون بمناسبة (شفاء أطفال بلده). :: هكذا كانت الأحداث قبل ثلاث سنوات، وتفاصيلها موثقة بالأرشيف، ووفيات المصابين بداء الكبد - صغاراً وكباراً - لم تتوقف، وهذه مجرد ذكرى بمناسبة اختيار الدكتور كمال عبد القادر مديراً عاماً لمدينة البشير الطبية، أو كما قالت صحف السبت الموافق (12 أبريل 2014).. أي بعد ثلاث سنوات من وأد أول مشروع لزراعة الكبد بالسودان، بحجة (ح نعلموا بشكل كويس في مدينة البشير الطبية).. لقد تم تعيين مديرها، بيد أن المدينة لا تزال محض فلاة وخرائط وأحلام منذ تاريخ إعادة تصدير أجهزة ومعدات مشروع زراعة الأعضاء، ومنذ تاريخ تشريد الكوادر، ومنذ تاريخ ترحيب سلطنة عمان به.. ما الذي منع أن تكون مدينة البشير الطبية المرتقبة إضافة لذاك المشروع المكتمل والموْءود قبل ثلاث سنوات؟.. سؤال لمن يهدمون آمال الناس بلا رحمة، حين تعجز عقولهم عن (البناء)!!.