في الأسبوع الماضي تحدث الترابي في فضائية قناة الجزيرة القطرية عن ثورة شعبية وشيكة في السودان، رغم أنه ينأى بنفسه وحزبه عن أية نية لمحاولة إنقلابية. أما الرئيس البشير فقد تحدى المعارضة أن تقود أية ثورة في السودان. وبين هذا وذلك بدأ الصادق المهدي يأخذ موقفا وسطا وواقعيا: ليس راضيا عن الحكومة بصورة مطلقة ولا يؤمن بتغيير تقوده الأحزاب السياسية. أما كاتب هذه السطور فيقف موقف الأكاديمي المحايد الذي يقرأ الواقع كما هو لكنه يصل لاستنتاجات من مقدمات منطقية. أولاً: لا أؤيد الرئيس البشير في استحالة أن تقوم ثورة لأن الثورات تقودها الشعوب عندما تصل إلى حد معين من المعاناة والضيق والتوتر وما يترتب على ذلك من استياء وسخط وإحباط ثم ينفجر البركان في لحظة تاريخية قد لا يستطيع أحد التنبؤ بها على وجه الدقة. لكني في ذات الوقت – من وحي القراءة الموضوعية لواقع السودان – لا أتمنى أن تحدث ثورة الآن. لأن السودان يختلف عن تلك الدول من حيث تركيبة وطبيعة المجتمع السوداني ومن حيث الوضع الراهن الذي يضج بالأزمات، فأي تغيير غير سلمي سوف يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها. ويمكن أن نتخيل سيناريو (مشهد) معين. فالتغيير العنيف أو الثوري في هذا الظرف الذي يمر به السودان وهو ما زال يواجه مشكلة بناء الدولة ورسم معالم الهوية الجامعة ولملمة أطرافه التي تعيش في حروب وأزمات يجعل الظروف مواتية بأن تؤدي أية ثورة إلى تقسيمه إلى عدة دويلات مثل ما حدث ليوغسلافيا السابقة (الآن خمس دول). وربما يعيد التاريخ نفسه فنرجع إلى مكونات السودان القديم (قبل التركية) في شكل ممالك فيكون عندنا مملكة دارفور في الغرب، ومملكة في الوسط في شمال كردفان (مثلما كانت المسبعات) وجنوب كردفان (تقلي)؛ والنيل الأزرق (الفونج) ومملكة في الوسط النيلي مثلما كانت سنار (السلطنة الزرقاء) وهكذا. دعونا نرجع لتاريخنا القريب جدا – لقراءة آخر حكومة ديمقراطية في الثمانينات (1986 – 1989). فالمقولات التي نكررها بفشل الأحزاب في التنمية بينما نجحت الحكومات العسكرية هي أن هذه الحكومات الحزبية (لم تجد الفرصة). لكن من المؤسف أن هذه الحكومات هي التي لم تعط لنفسها الفرصة حيث كانت تحمل عوامل فنائها في داخلها – ضعيفة ومتصارعة وفق تحالفات وائتلافات متغيرة أنتجت حكومات غير متجانسة ونظام سياسي غير مستقر – ويكفي أن أشير إلى أنه في خلال ثلاث سنوات فقط كانت هناك خمس حكومات !! بل كانت هناك حكومة مدتها أقل من عام! وإليكم هذه الخلاصة التاريخية لآخر حكومة ديمقراطية منتخبة في العهد الحزبي الثالث (القريب): على الرغم من أن حكومة الصادق المهدي كانت حكومة منتخبة من الشعب بصورة ديمقراطية لكنها شهدت صراعات وعدم استقرار. كما استمر التمرد وفشلت بعض المحاولات في التفاوض معه مثل اتفاقية الميرغني/قرنق في نوفمبر 1988 وقبلها إعلان كوكادام في مارس 1986 بين التحالف الوطني لإنقاذ البلاد والحركة. وقد تشكلت عدة حكومات في فترة قصيرة: 1/ حكومة الوحدة الوطنية (1986- 1987): بموجب الانتخابات سلم الجيش السلطة للشعب من خلال ممثلين في الجمعية التأسيسية ومجلس رأس الدولة وترأس الصادق المهدي حكومة إئتلافية من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي . في يونيو 1986 قدّم رئيس الوزراء الصادق المهدي خطابا تعهد فيه بالالتزام بميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وعقد المؤتمر الاقتصادي الأول من أجل النهوض والإصلاح الاقتصادي في مارس 1986. لكن تدهورت الأوضاع الاقتصادية وزاد الأمر سوءا حيث رفعت الحكومة الأسعار في مارس 1987 وظهرت صراعات بين الأحزاب المشاركة في الحكومة. وحاول المهدي إجرء إصلاحات اقتصادية لكن استدعى ذلك إجراء تعديل وزاري فأعفى الوزراء في مايو 1987. 2/ الوزارة الإئتلافية الثانية (أغسطس 1987 – مارس 1988): تشكلت برئاسة الصادق المهدي وعاد نفس الوزراء ما عدا وزير التجارة (محمد يوسف أبو حريرة) الذي كان في خلاف مع المهدي. وتعهد المهدي للشعب بتنفيذ ميثاق الانتفاضة وأقام وزارة للسلام لمتابعة تنفيذ مؤتمر كوكادام وحل مشكلة الجنوب. 3/ حكومة الوفاق الوطني (مارس 1988 – ديسمبر 1988): تصاعدت الحرب الأهلية وساء الوضع الاقتصادي فتقدم الصادق المهدي بخطاب للشعب من داخل البرلمان (15 مارس1988) مطالبا فيه بإعادة تفويضه لتشكيل حكومة موسعة وفق برنامج جديد. وفي الخطاب اعتراف ضمني بفشل حكومته السابقة. وبعد أكثر من شهر توصل حزبا الأمة والاتحاي الديمقراطي والأحزاب الجنوبية إلى "ميثاق الوفاق الوطني" وقد رفضته الجبهة الإسلامية القومية في البداية وأخيرا خضعت حكومة الصادق لشروط الترابي بتعديل القوانين وذلك على حساب موقف الأحزاب والقوى السياسية الأخرى. وهكذا أعلن الصادق المهدي في أواسط مايو 1988 تشكيل حكومته الإئتلافية الثالثة التي ضمت (9) وزراء من حزب الأمة و(6) للحزب الاتحادي الديمقراطي و(5) وزراء للجبهة الإسلامية القومية و(5) وزراء للأحزاب الجنوبية، ووزير واحد من الحزب القومي السوداني بالإضافة إلى الفريق (م) عبد الماجد حامد خليل الذي تم تعيينه وزيراً للدفاع (مستقل). تدهور الوضع الاقتصادي في عام 1988 – 1989 حيث أصبح الاقتصاد يعتمد على المعونات والقروض الخارجية. وخضع الاقتصاد لشروط صندوق النقد الدولي، وتعمقت تبعية الاقتصاد الوطني للسوق الرأسمالية العالمية وزاد الأمر سوءا بالفيضانات والسيول (خريف 1988) وزادت ندرة السلع وارتفعت الأسعار وخرجت مظاهرات طلابية تهتف (لن تحكمنا حكومة الجوع، لن يحكمنا السوق الأسود). 4/ حكومة الإئتلاف مع حكومة الجبهة الإسلامية القومية (ديسمبر 1988- فبراير 1989): انهارت الحكومة الثالثة بعد انسحاب الحزب الاتحادي الديمقراطي منها فسعى الصادق المهدي لتشكيل حكومة رابعة حيث شكلها من حزب الأمة والجبهة الإسلامية القومية وبعض الجنوبيين والشخصيات المستقلة. فاستقال عبد الماجد حامد خليل بسبب إشراك الجبهة الإسلامية في الحكومة الجديدة وطالب بإيجاد حلول للتصعيد العسكري في الجنوب. وعقدت القيادة العامة للجيش مؤتمرا لمناقشة الوضع في الجنوب. لكن انحرف المؤتمر لمنقاشة القضايا السياسية، ورأي الجيش أن هناك تهديدا لمكاسب الشعب ووحدته الوطنية، فرفع مذكرة لحكومة الصادق المهدي في 20 فبراير 1989 وطالب بالمزيد من الدعم العسكري والسياسي. اعترف الصادق بما جاء في المذكرة خاصة (انشطار الجبهة الداخلية) وتعهد بمعالجة الأوضاع. 5/ حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (مارس 1989 – يونيو 1989): خاطب رئيس الوزراء، الصادق المهدي، الجمعية التأسيسية في 27 فبراير 1989 وتحت ضغط مباشر وغير مباشر من القوات المسلحة وقوى الانتفاضة السياسية والنقابية أعلن استعداده لتوسيع قاعدة الحكم بالصورة التي تلبي تطلعات القوى السياسية كافة. وسط هذه الضغوط أعلن رأس الدولة (أحمد الميرغني) إعفاء الوزراء وشكّل الصادق المهدي حكومة "الجبهة الوطنية المتحدة": شملت (8) وزراء من حزب الأمة، (6) للإتحاديين، (4) للأحزاب الجنوبية، وزير للحزب القومي، وواحد لليسار، ووزيرين للاتحادات النقابية والمهنية، وشخصية قومية لوزارة الدفاع. في 16 يونيو أعلنت القوات المسلحة أنها رصدت محاولة إنقلابية خططت لها بعض العناصر المايوية للاستيلاء على السلطة وإعادة نميري للحكم. وفي 30 يونيو 1989 قاد العميد عمر حسن أحمد البشير إنقلابا عسكريا ناجحا أطاح في بحكومة الصادق المهدي الديمقراطية وشكل حكومة تحت اسم حكومة "الإنقاذ الوطني". هنالك ملاحظة مهمة في هذا السياق: كانت تلك الأحزاب أفضل حالاً من اليوم، فقد كانت متوحدة ومع ذلك فشلت! فما بالكم في أحزاب منقسمة، منشقة – بعضها إلى خمسة أجنحة (تيارات أو كتل أو فروع..) في الحزب الواحد. فكيف يكون الحال إذا عادت اليوم وهي بهذا الضعف والانقسام والتفكك؟؟! يجب أن نفكّر أولاً في إعادة بناء أحزاب سياسية متوحدة ومتماسكة تقوم على الديمقراطية والمؤسسية في داخلها حتى يقوم عليها نظام سياسي متماسك ومستقر، ثم نفكر في الثورة والتغيير، وإلا ربما يكون حالنا كالعراق اليوم أو أسوأ ونعض بنان الندم ونقول يا ليت لو أصلحنا نظام البشير واجتثثنا منه الفساد والمفسدين وتدرجنا في التغيير من خلال انتقال ديمقراطي يتشكل على وعي وتفاليد وقيم أو ثقافة سياسية تحافظ على استدامة الديمقراطية وعلى وحدة (ما تبقى من) السودان واستقراره. د/ عبده مختار