النبع الذي لاينضب كامل عبد الماجد هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته قد يفوق عدد المقالات التي كتبتها عن الشاعر الفذ العبقري الراحل محمد عبد الحي بكتابتي لهذا المقال العشرة مقالات.. فنبع عبد الحي لايزال يتدفق رغم رحيله الأبدي قبل قرابة الثلاثة عقود. فما أن يمر عام أو عامان إلا وندعى لحضور محاضرة أو تدشين كتاب أو احتفائية بذكرى عبد الحي.. كتبت مقالاً قبل أعوام خلت عنه بعنوان (عبد الحي استدار قمراً ثم أفل) وكم كنت مخطئاً في العنوان.. فأمثال عبد الحي لايعرفون الأفول.. فإن رحل بجسده يظل منبعه يتدفق من بعده.. شغل عبد الحي مثقفي وأدباء بلاده كما شغل الأدباء العرب بما ترك من شعر وكتابات نقدية وتراجم كما لم يشغلهم من قبله أو من بعده أحد... فما انقطعت كتابات الناس عنه وما انسدلت على ذكره السدول. وربما حببت صلتي القديمة بعبد الحي إلى نفسي الكتابة عنه وتعقب ما يكتب أو يقول الناس عنه بشغف واهتمام فقد عايشت عبد الحي عامين في مدرسة حنتوب الثانوية وعامين آخرين في جامعة الخرطوم إذ كان يتقدمني بعامين.. ثم لازمته لأعوام أخرى قبل أن يتفرق بنا الشمل ويحجبنا الزمان. رأيت ونحن ندخل في حنتوب في الشباب الغض واليفاعة الأولى التحضر والتمدن في عبد الحي وربما كنت أرى فيه العبقرية وأخلط بينها وبين التمدن... كان هادئاً يمشي برقة ويتبسم نصف ابتسامة ولا يضحك وكان عميق الكلام.. عميق الشعر منذ ذلك الزمان الباكر: (اذبح فؤادي إنني بك يا حبيب متيمُ أيضئ مصباح الهوى إن لم يضئ فيه الدمُ إني وقفت أمام بابك بالعذاب أجمجمُ لأراك تشرق في الظلام وفي المشارق أظلمُ أنت الزلازل هدمت حصني ففي التشريد أمني وسجنت فيك معانقاً حريتي في ليل سجني جهلوا فما يدرون أننا ملتقى وتر ولحن وأكثر ظني أن قصيدة (العودة إلى سنار) والتي أسهمت فيما بعد في تشكيل مشروع عبد الحي الشعري بدأ كتابتها في حنتوب. لقد فطنت مبكرًا لعظمة عبد الحي الثقافية ونهمه المدهش لحصد كل ما يتاح لنا في ذلك الزمان من معرفة وكنت أبصر بعين اليقين ما سيحدث عبد الحي في مسيرة الشعر العربي في المستقبل وقد فطن إلى ذلك قبلي صديقه الحميم الشاعر عمر عبد الماجد وأستاذنا الهادي آدم.. لحقت بعبد الحي وعمر عبدالماجد بجامعة الخرطوم ولازمتهما ملازمة ظليهما وصدق ظني إذ سمقت قامة عبد الحي الشعرية ولمع نجمة داخل وخارج السودان وحقق صديقه عمر عبدالماجد شهرة أوقفته في الصف الأول بين الذين تألقوا في كتابة الشعر في تلك الفترة، فترة عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الذي انعدم وهي بالحق أخصب فترات السودان للإبداع الثقافي. سعدت أيما سعادة الأسبوع الماضي بحضوري لندوة رفيعة المستوى وجهت لي الدعوة لحضورها الأستاذة الأديبة عائشة موسى السعيد قرينة الراحل عبد الحي والندوة تدشين لكتابها (تجليات الشعر الإنجليزي والأمريكي في الشعر العربي الرومانسي). والكتاب عبارة عن ترجمة للعربية من الرسالة التي كتبها زوجها عبد الحي عام 1982م وهو بجامعة اكسفورد ونال بها درجة الدكتوراه. وقد قام الدكتوران عبد الله علي إبراهيم وأحمد صادق بمراجعة الكتاب فيما قام الأستاذ منتصر أحمد النور والدكتورة آسيا شريف بالتدقيق اللغوي وتكفل بالطباعة مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي. أشرف معهد عبد الله الطيب على التدشين وترأس الدكتور صديق عمر الصديق الندوة بإدارة رفيعة المستوى وتقديم غاية في البهاء والإبداع وهكذا دأب د. صديق يضفي ألقاً إضافياً على كل ندوة أدبية يديرها. تحدثت في بداية الندوة الأستاذة عائشة موسى مؤلفة الكتاب حديثاً شيقاً عذباً عن فترتهم في مدينة أوكسفورد ومراحل كتابة عبد الحي لرسالته وما سبقها من جمع للمصادر وأدهشت الحضور بأن عبد الحي جمع واطلع على 890مرجعاً غير ما كتب في المجالات الدورية عن موضوع بحثه. وأبانت أن ترجمتها لرسالة عبد الحي تأتي وفاءً لوصيته لها قبل أن تحاصره العلل والأسقام بزمان طويل وقد تأخرت عشرين عاماً عن القيام بالتجربة تهيباً إلى أن هيأ الله لها إنجاز الترجمة مؤخراً. لقد كان حديث صاحبة الترجمة حديثاً مثقفاً عميقاً وقد أعجبني قولها إن الكتاب كتاب للأذكياء وهو بالحق كذلك. تحدثت الدكتورة الأديبة صفية نور الدين حديثاً ضافياً عن الكتاب. وكان حديثها محاضرة قيمة عن أثر الشعر الإنجليزي في شعر الرومانسيين العرب. وأبانت أن الكتاب يعتبر مرجعاً مهماً في المجال الذي طرقه غير أنها تحفظت في ترجمة العنوان وأوصت أن يعاد النظر فيه في الطبعات القادمة كما نوهت إلى بعض أخطاء الطباعة والصياغة والمعلومات. ولقد كان ملفتاً للنظر العدد الكبير الذي حضر الندوة مما يدلل على شغف الناس وإعجابهم بالعطاء الثقافي المتفرد الذي رفد به عبد الحي ساحة الأدب ببلادنا. وتحدث في الندوة الناقد المعروف مجذوب عيدروس مبيناً أن كتاب تجليات الشعر الإنجليزي والأمريكي في الشعر العربي الرومانسي سيصبح مرجعاً لاغنى عنه لدارسي الأدب المقارن. وأبان أن عبد الحي من رواد مدرسة الغابة والصحراء التي زاوجت بين الهوية العربية والإفريقية. (بدوي أنت.. لا من بلاد الزنج.. لا أنا منكم تائه عاد يغني بلسان ويصلى بلسان) وأتاح لي رئيس الندوة فرصة للمداخلة فكشفت للحضور بعض خبايا فترة حنتوب وهي فترة زاملت فيها عبد الحي وأوضحت أن محمد عبد الحي قفز إلى العمق في كتابة الشعر دون أن يمر بالمراحل الأولى التي مررنا بها وهي مراحل البساطة والضعف في التعبير وأبنت في حديثي أن مراحل الدراسة الثانوية في زماننا هي التي شكلت وجداننا وعجمت أعوادنا. لقد أهدت الأستاذة عائشة موسى السعيد الأدب السوداني بل الأدب العربي هدية غالية بترجمتها لرسالة زوجها محمد عبد الحي وإصدارها في كتاب. وأشهد وقد تخرجت في الجامعات البريطانية أن مستوى الترجمة للنص الإنجليزي إلى العربية جاء متقناً لحد بعيد ولقد تعقبت المترجمة ما جاء في الرسالة تعقباً واضحاً منذ بدايات ظهور الرومانسية في الشعر العربي، وقد بدأ ذلك المازني وعبد الرحمن شكري وعباس العقاد وانخراطهم في جماعات الديوان والمهجر وأبوللو، وكان العقاد يرى أن معرفة ما يفعله الشعراء والنقاد في اللغات الأخرى مهم جداً لتشكيل الكاتب العربي. فالعزلة الفكرية وباء والأصالة يجب أن تفتح أوردتها المسدودة لرم التجارب الجديدة من أجل البقاء والاستمرارية. لقد قرأت الكتاب ولا أذهب إلى ما ذهبت إليه الدكتورة صفية نور الدين في حديثها عن ضعف في الترجمة وربما كانت هنا وهناك أخطاء طباعة قليلة لاتؤثر على العمل الكلي الذي صاحب السرد. كان على المنصة أيضاً مصطفى الصاوي والبروف مهدي بشرى وقد قدما مداخلات سلسة عن الكتاب. والشكر أجزله للأستاذة عائشة موسى على نبل الوفاء.. وقد جاء في إهداء الكتاب: إلى محمد عبد الحي: إيفاءً بالوصية عائشة