أطيب التحايا،،، عندما كنت وزيرا للثقافة في السبعينيات والثمانينيات دعوت الشاعر الراحل نزار قباني للمشاركة في مهرجان الثقافة الثالث.. وجاء نزار- كما تعرف- وعطر سماوات الخرطوم بأريج شعره السياسي والعاطفي الرائع الجميل.. وكان نزار قد جاء قبلها إلى السودان في الستينيات بدعوة من الراحل عبد الماجد أبو حسبو وزير الإعلام انذاك.. وبعد أن عاد نزار إلى بيروت، بعد أن دعوته للمرة الثانية للسودان، كتب كلاما رائعا عن السودان وأهل السودان، رأيت أن أبعث به إليك لتنشره في صحيفتكم الغراء إن كان إلى ذلك سبيلا. وقد سبق أن ذكرت أن نزار، رحمه الله، بعد أن عاد إلى بيروت من (مهرجان الثقافة الثالث)، كتب إلي بخط يده الجميل المنمق يقول (أنه في كل مكان يشعر بأنه شاعر ولكنه في السودان يشعر بأنه قديس).. رحم الله نزار وأحسن اليه بقدر ما أمتع الناس بدرره، شعرا ونثرا.. مع أندى الامنيات. أخوك إسماعيل الحاج موسى نزار قباني يتعرف على شعره والنيل واللؤلؤ.. في السودان كلمات قديمة في زمن جميل!! نزار قباني: شاهد من الزمن الجميل نصف مجدي محفور على منبر (لويس هول) و (الشابل) في الجامعة الأمريكية في بيروت، والنصف الآخر معلق على أشجار النخيل في بغداد، ومنقوش على مياه النيلين الأزرق والأبيض في الخرطوم، طبعا هناك مدن عربية أخرى تحتفي بالشعر وتلوح له بالمناديل، ولكن بيروتوبغدادوالخرطوم تتنفس الشعر وتلبسه وتتكحل به، إن قراءتى الشعرية في السودان كانت حفلة العاب نارية على أرض من الرماد الساخن. في (دار الثقافة) في أرض أم درمان، كان السودانيون يجلسون كالعصافير على غصون الشجر، وسطوح المنازل، ويضيئون الليل بجلابياتهم البيضاء، وعيونهم التي تختزن كل طفولة الدنيا وطيبتها. هذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء خرافي، شيء لم يحدث في الحلم ولا في الأساطير، شيء يشرفني ويسعدني ويبكيني، أنا أبكي دائما حين يتحول الشعر إلى معبد والناس إلى مصلين، أبكي دائما حين لا يجد الناس مكانا يجلسون فيه فيجلسون على أهداب عيوني، أبكي دائما حين تختلط حدودي بحدود الناس فلا أكاد أعرف من بنا الشاعر ومن بنا المستمع، أبكي دائما حين يصبح الناس جزءا من أوراقي، جزءا من صوتي، جزءا من ثيابي، أبكي لأن مدينة عربية، مدينة واحدة على الأقل لا تزال بخير، والسودان بألف خير، لأنه يفتح للشعر ذراعيه، كما تفتح شجرة التين الكبيرة ذراعيها لأفواج العصافير الربيعية المولد. السودان ينتظر الشعر كما تنتظر الحلوة على النافذة فارس أحلامها، يأتي على صهوة جواده حاملا لها قوارير العطر وأطواق الياسمين، ومكاتيب الغرام. السودان يجلس أمام الشعر كما تجلس الأم أمام سرير طفلها تغمر خديه بالقبلات وتطعمه حلاوة اللوز والسكر. السودان يلبس للشعر أجمل ما عنده من الثياب ويذهب للقاء الشعر كما يذهب العاشقون إلى موعد غرام. السودان بألف خير، لأنه ربط قدره بالشعر، بالكلمات الجميلة، الكلمات جنِّيات رائعات الفتنة، يخرجن مرة من عتمة الظنون، ومرة من عتمة الدفاتر، الكلمات طيور بحرية تخترق زرقة السماء دون تأشيرة، ودون جواز سفر، لم أكن أعرف- قبل أن أزور السودان- أي طاقة على السفر والرحيل تملك الكلمات، ولم أكن أتصور قدرتها الهائلة على الحركة والتوالد والإخصاب، لم أكن أتخيل أن كلمة تكتب بقلم الرصاص على ورقة منسية قادرة على تنوير مدينة بأكملها، على تطريزها بالأخضر والأحمر، وتغطية سمائها بالعصافير. أشعر بالزهو و الكبرياء حين أرى حروفي التي نثرتها في الريح قبل عشرين عاما تورق وتزهر على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض. هذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء لا يصدق، وهو شهادة حاسمة على نقاء عروبتكم، فالعربي يرث الشعر كما يرث لون عينيه ولون بشرته، وطول قامته، ويحمله منذ مولده ويحمله كما يحمل اسمه وبطاقته الشخصية. مفاجأة المفاجآت لي كانت الإنسان السوداني، الإنسان في السودان حادثة شعرية فريدة لا تتكرر، ظاهرة غير طبيعية، خارقة من الخوارق التي تحدث كل عشرة آلاف سنة مرة واحدة، الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي الباقي لتراثنا الشعري، هو الولد الشاطر الذي لا يزال يحتفظ دون سائر الإخوة بمصباح الشعر في غرفة نومه، كل سوداني عرفته كان شاعرا أو راوية شعر، ففي السودان إما أن تكون شاعرا أو أن تكون عاطلا عن العمل، فالشعر في السودان هو جواز السفر الذي يسمح لك بدخول المجتمع ويمنحك الجنسية السودانية، الإنسان السوداني هو الولد الأصفى والأنقى والأطهر الذي لم يبع ثياب أبيه ومكتبته ليشتري بثمنها زجاجة خمر، أو سيارة أمريكية، هو الإنسان العربي الوحيد الذي لم يتشوه من الداخل ولم يبع تاريخه بفخذ امرأة أبيض تسبح على شاطئ (كان) أو (سان تروبيز). ها أنذا مرة أخرى في السودان، اتعمد بمائه، وأتكحل بليله، وأسترجع حبا قديما لا يزال يشتعل كقوس قزح في دورتي الدموية، عرفت في حياتي وفي رحلاتي كل أنواع اللآلئ البحرية، عرفت اللؤلؤ الأبيض، واللؤلؤ الرمادي، وعرفت اللؤلؤ الأخضر، اللؤلؤ الوردي، وعرفت الأوربي والآسيوي، واللؤلؤ الذي يوزن بالقيرط، واللؤلؤ الذي يوزن بالقصائد والدموع، واللؤلؤ الذي يتدلى على صدور الكواكب و.. و.. واللؤلؤ الذي يتدلى على صدور الجميلات. بعد ثلاثين سنة من الغطس تحت سطح الماء، والغرق في بحار النساء اكتشفت أن اللؤلؤ الأسود هو الأعلى، والأحلى والأكثر إثارة، كما اكتشفت أن الذي يملك مثقالا واحدا من اللؤلؤ السوداني، يمتلك كنوز سليمان، والحور المقصورات في الجنان، ويصبح ملك الإنس والجان. الحب السوداني ليس جديدا علي، فهو يشتعل كالشطة الحمراء على ضفاف فمي، ويتساقط كثمار المانغو على بوابة قلبي، ويسافر كرمح أفريقي بين عنقي وخاصرتي، هذا الحب السوداني لا أناقشه، ولا أحتج عليه، لانه صار أكبر من احتجاجي، وأكبر مني، صار وشما على غلاف القلب لا يغسل ولا يمسح.