بقلم : محمد الطاهر العيسابي هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته في إحدى أيام شهر أغسطس من العام 2010 ، ومع بزوغ فجر " الخميس " أطلّت على والديها كبدر منير يهدي السائرين في عتمة ليلِ بهيّم ، الفرحة كانت لاتسع قلب والديها بعد انتظار طويل وقلق لمقدمها الميمون ، كانت طفلة متميّزة ومتفردة في كل تفاصيّل حياتها ، ذات حضور مهيّب وأنيّق بين أقرانها وجيرانها ، كانت كأنّها تسارع الخُطى لتضع بصمتها في الحياة وقيّمتها بين الناس ، فشكلّت حضوراً عجيباً في كل القلوب التي عرفتها والتي لم تعرفها ، أحبّها الجميع من الأقارب والغرباء فبكوها بدمعٍ غزير وحزنٍ عميق . دوّن والدها المفجوع في مذكراته وهو يسرد رحلتها الحزينة فقال : " لانا " إمتحان عسير وإبتلاء كبير أراده الله تعالى لنا سائلين الله أن نتجاوزه بنجاح وصبر ، يقول والدها : كانت مقرّبة جداً لي ، اصطحبها في مشاويري فهي الأنيسة والجليسة والمسليّة بلكنتها الحلوه وأسئلتها السهلة والصعبة ، كان مقعدها الأمامي بالسيّارة كما كانت مكانتها في قلبي ، إستقبالها لي " بالقُبلات " ووداعها " بالعبرات " ، كُنا نرى فيها الصلاح تتلو على مسامعنا قصار السور من القرآن وتختم بحديث أركان الإسلام رغم صِغر سنها وهي مازالت تضع أول رجلٍ بتمهيدي رياض الأطفال ، فكان لها ذاكرة متقدة وذكاء منقطع النظير ، تسرد كل ما إعتراها بإسهاب ، وتعبّر عن نفسها بإتقان ، وتحفظ أسماء أعمامها وأخوالها بتركيّز . قبل أسبوعٍ من الحادث الأليم ، جلست الأسرة الصغيرة لتتناول طعام الغداء بحبٍ وصفاء ، بعد دوام يوم مرهق لوالدهم العزيز ، وبعد وجبة الغداء طلبت " لانا " من والدها ببراءة الأطفال وحلاوة الكلمات أن يسمح لهم بالسفر من مدينة بورتسودان إلى حبوباتها بأرض الشمال ، وافق الوالد على الفور ، ف " لانا " غنيّة عن القول ، فرحت " لانا " فرحة لا توصف وطبعت على أبيها قبلة وكأنها تقول أنه " الوداع الأخير " وحرصت أن تخبر كل صويحباتها الصغار لتقول لهم " الوداع " . وعلى إحدى الحافلات السفريّة الكرسيّ رقم (32 ) أخذت مكانها لتلوّح لوالدها الذي كان في وداعها هي ووالدتها وشقيقيها بالسوق الشعبي ببورتسودان ، كانت يديها النحِيلتين لا تكف عن التلويح ، وماء عينيها يتدفق يشعُّ منه بريق ، وهي تلقي على والدها نظرة الوداع الأخير ، كانت تلك هي اللحظة الأخيرة التي تقع عيناها على عين والدها الحزين ، وصلت " لانا " محطتها وهي لا تصدق أنها في حضن جدتها الحنون من فرط شوقها وفرحها الخجول ، ولم تمكث بضعة أيام ليتوفاها الأجل في طريق شريان الشمال ، وهي في طريقها من دنقلا إلى الخرطوم في غرة رمضان ، بسبب ظرف طاريء هرعت إليه أسرتها على عجلٍ عجيب ، كانت " لانا " تجلس في حضن والدتها حتى قبيل ساعة من الحادث الأليم وهم يستغلون سيارة خاصة " بوكس دبل كابين " ، فتحولت " لانا " إلى حضن خالها الفقيّد ، ولم تمكث دقائق حتى إنفجر إطار السيارة عند الكيلو 24 ، مما أدى إلى إنقلابها عدة مرات ليفارق ( خالها عثمان ) الحياة في الحال ، وتُصاب " لانا " بنزيف في الرأس فيُغمى عليها وتفارق الحياة وهي في غرفة الإنعاش ، حضر والدها المكلوم من بورتسودان ليلقي عليها نظرة الوداع ، فيغيبها الموت بعد وصوله بساعات في لحظات حزينة وعصيبة تجلد فيها " ياسر " بالصبر مسلماً أمره إلى الله بيقين وإيمان . في حواصل طير خضر إبنتنا " لانا " وأنت ترحلين وترفرفين في جنات النعيّم ، وتتركين بصماتك الحزينة في القلوب ، لازالت رنة صوتك في أسماعنا ، وإبتسامتك الساحرة لاتفارق مخيلتنا ، و صورك الجميلة لاتفارق ناظرينا في الحديقة ، ويوم العيد بين ألعابك ، وعلى شاطيء البحر مع أقرانك. وداعاً حبيبتنا الصغيرة " لانا " في حواصل طير خضر في رفقة الشهداء والصديقين. قطعت " لانا " نياط قلوبنا لازلت أذكر صورتها المطبوعة أمامي وهي مستسلمة حزينة جسد بلا روح .. جسد منهك أعياه الألم وبراءة كزهرة متفتحة قد زبلت.. ودعتنا " لانا " ولازالت بقايا إبتسامة على شفتيها .. وكآبة حزن تخيم على ألعابها .. وسؤال محير يدور في أذهان رفيقاتها يسألن أين لانا ؟ مابال مقعدها بالروضة خالي ذهبت " لانا " لتُدخل أسرتها في إمتحان عسير .. فقد كان شقيقي " ياسر " صابراً راضياً بقضاء العلي القدير .. وهو يودع فلذة كبده وزهرته " الوحيدة " من بين اثنين من البنين ، نسأل الله أن يجرنا في مصيبتنا ويخلف لنا بخير منها . العين تدمع والقلب يحزن وانا لفراقك يا " لانا " لمحزونون ولانقول الا ما يرضي رب العالمين .