قبل سنوات مضت جلس شقيقي الأصغر ليشاهد إحدى حلقات برنامج "أسماء في حياتنا" التي استضاف فيها الأستاذ عمر الجزلي الرئيس السوداني الأسبق الراحل المشير جعفر محمد نميري. وبعد أيام قال لي أخي متسائلاً: (بالله دا كان حاكمكم 16 سنة كيف؟) فقلتُ له "بالقوة". سبب التساؤل "الاستنكاري" أنه عندما كان نميري حاكما كان أخي صغيراً. وفي شبابه كان نميري في منفاه بالقاهرة وسمع الكثير عن نميري بما يشبه الأسطورة. وعندما جلس لتلك الحلقة كان أخي يتوقع مستوى معينا من الحديث والأفكار من تلك الشخصية (الكاريزمية). لم أشاهد تلك الحلقة فقال لي أخي في ما معناه إن نميري ليس بهذه (الهيلمانة) فقد قال نميري في تلك الحلقة إننا أكرمنا قادة الإنقلاب (أحد الإنقلابات، ربما إنقلاب هاشم العطا) بأننا أعدمناهم رمياً بالرصاص وليس شنقا بالحبل لأن الحبل (الناس بعلّقو عليهو الشرموط)! قلتُ لشقيقي إنه ليس بالضرورة أن يكون القائد فيلسوفا أو من العلماء أو المفكرين، لكن يحتاج لصفات شخصية وقدرات أخرى في مجال القيادة واتخاذ القرار، وقد كان نميري كذلك. الملاحظ أننا في السودان دائما (نبصق) على تاريخنا، ولا نستفيد من تجاربنا ونتعامل مع أي عهد سابق بأنه (النظام البائد) وأن تلك الفئة هي (سدنة النظام وبطانة الرئيس المخلوع). ونحكم على ماضينا السياسي بصورة غير موضوعية وربما نتطرف في نقده والرمي به في (مزبلة التاريخ). بينما التاريخ له روح وعقل وفكر. فهو تجارب ودروس وعِبَر. والتاريخ سلسلة من الأحداث المترابطة، المتصلة المتفاعلة. وحلقاته ليست معزولة أو جامدة لذلك هناك ما يُعرَف ب (فلسفة التاريخ). نفتقر للرؤية الشاملة لتاريخنا. وكل عهد جديد عندنا يبدأ من الصفر. لذلك ندور في حلقات مفرغة وندور في فلك التخبط والفشل. أعود إلى فترة الرئيس نميري حيث شاركتُ – في فترة الشاب - في المظاهرات التي أطاحت بالنميري و(انضربنا بمبان). وعلى الرغم من ما قيل عن حكم نميري في أيامه الأخيرة إلا أنه وضع بصمات واضحة في تاريخنا الحديث لا يمكن إنكارها. وعلى الرغم من أنه كان نظاماً شموليا واتسم بحكم الفرد (الأوتوغراطية) إلا أن هناك الكثير من الإيجابيات التي يجب على أي كاتب محايد الإقرار بها. وقد كتب أحد الغربيين (أنطوني سلفستر) كتابا عن نميري كان عنوانه (السودان تحت حكم النميري) Sudan Under Numairi ولكن لا توجد كتابات سودانية تقدم تاريخا شاملا عن فترة حكم نميري. وربما تكون هناك رسالة دكتوراة أو ماجستير في هذا الموضوع لكن عادة بحوثنا الأكاديمية لا تجد طريقها للنشر. إننا نظلم الرئيس الراحل نميري عندما نحاكمه بالسلبيات فقط. لا بد من إعادة قراءة فترة نميري في سياقها التاريخي الذي جاءت فيه. فهي وليدة حركة الضباط الأحرار الذي يرجع تشكيله إلى مصر في عام 1952 ثم انتقل إلى السودان في نهاية الخمسينات. وبعد ثورة أكتوبر 1964 اتخذ خطاً يساريا واضحاً. وقد جاء إنقلاب نميري (25 مايو 1969) نتيجة لعوامل من بينها شعور الجيل الجديد بالإحباط من الفوضى التي دخلت فيها البلاد بعد الاستقلال. فقد شعر الشباب من جيل ما بعد الاستقلال – بما فيهم المثقفون وضباط الجيش – أن الزعماء السياسيين قد خذلوهم بإدخالهم البلاد في فوضى منذ الحكومة الوطنية الحزبية الأول، بينما كان يتطلع هذا الجيل إلى الاستقرار والتقدم. كما جاءت حكومة مايو في مناخ سياسي إقليمي كان يسوده اليسار. ولم يكن لنميري برنامج ثوري واضح فكان اليسار هو الذي (كسا عظام الحكومة بلحم الفكر) كما قال سلفسترthe communists provided the flesh for the bones… غير أنهم عندما أرادوا السيطرة على الثورة وتوجيهها الوجهة الاشتراكية الكاملة وذلك عن طريق إنقلاب، والذي أحبطه أنصار نميري بعد ثلاثة أيام فقط، انقلب عليهم وأعدمهم، واتجه نحر الغرب الرأسمالي، ثم إلى اليمين حيث أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في عام 1983 بتأثير الاخوان المسلمين (بقيادة الترابي) الذين دخلوا الحكومة بعد المصالحة (7/7/1977) حيث تم استيعابهم في الاتحاد الإشتراكي السوداني؛ وقالوا إنهم دخلوا فيه لكي يعملوا (تغييرا من الداخل) وقد كان؛ وتلك قصة أخرى. لكن دعونا ننظر إلى الجانب الممتليء من (كوب) حكومة مايو.. فقد أحدث نميري تحولات كبرى في البلاد. فهو تميز بأنه نهض بالمرأة. فقد حدثنا آباؤنا أن المرأة السودانية كانت حتى منتصف القرن العشرين (متبلمة) ولا تأكل في الشارع. وفي خلال أقل من ربع قرن – في عهد نميري – أصبحت المرأة وزيرة (فاطمة عبد المحمود ونفيسة محمد الأمين). وهذه نقلة كبيرة في فترة قصيرة بحساب التحولات الاجتماعية في العالم. أيضاً تميز نظام نميري بصفة لم تتميز بها كل الحكومات السابقة واللاحقة بما فيها الإنقاذ، وهي أنه كان يختار الرجل المناسب في المكان المناسب. فشكل حكومة من التكنوقراط المحايدين مثل د. جعفر محمد علي بخيت (وزير الحكم المحلي) و د. منصور خالد (الخارجية) وإبراهيم منعم منصور (المالية) و د. بشير عبادي (النقل)، و د. عبد الله عبد الرحمن (الإصلاح الإداري) و وادي حبشي (الزراعة)..ألخ. بينما كل حكوماتنا الأخرى تقوم معاييرها على الانتماء السياسي أو الآيديولوجي كما تقوم على المحسوبية والجهوية والعنصرية. من انجازاته أ/تشجيع المشاركة الشعبية؛ ب/الوحدة الوطنية واتفاقية أديس أبابا؛ ج/ التنمية الاقتصادية (وضعت خطة خمسية تم من خلالها إنجاز عدد من مشاريع التنمية مثل مصنع سكر كنانة، سكر حجر عسلاية، مشروع الرهد الزراعي، الجزء الأكبر من طريق الخرطوم-بورتسودان، طريق الدبيبات-كادقلي، نيالا-كاس-زالنجي، جبل أولياء-الدويم، كبري كوستي، مبنى البرلمان في أمدرمان، قاعة الصداقة، قصر الشباب بأم درمان، كبري نهر القاش، كبري نهر عطبرة، طريق كوستي-مدني، جامعة جوبا (1977)، جامعة الجزيرة (1978)، كلية الهندسة الميكانيكية عطبرة، واكتشاف النفط (شيفرون الأمريكية) وغيرها.. من انجازاته المشهودة الحراك السياسي والاجتماعي الذي تبلور من خلال مكونات جديدة مثل كتائب مايو والرائدات والطلائع والكشافة و"الإتحاد الإشتراكي السوداني" (1972). ثم تم تشكيل المنظمات الفئوية (العمال والمزارعين) والجماهيرية (الشباب والمرأة)، ولجان تنمية القرى، وتبلور ذلك في القمة (في المركز) في ما عُرِف ب (تحالف قوى الشعب العاملة) والذي يشمل: العمال والمزارعين والجنود والرأسمالية الوطنية والمثقفين. كان الهدف من الاتحاد الاشتراكي السوداني تجاوز الانتماءات القبلية والطائفية التي كان يشير إليها النميري ب (الرجعية). وكان الهدف منه التغلغل في مفاصل المجتمع، والتخطيط للعمل السياسي وأداة لتعبئة الجماهير عبر برامج عمل محددة. كان نميري ذكياً عندما سمح لوزير الإعلام (بونا ملوال) بتأسيس مجلة شهرية ناطقة بالإنجليزية وتعمل بحرية كاملة، تنقد الحكومة وتعكس وجود حرية صحفية غير متاحة للصحف الصادرة بالعربية (الصحافة والأيام)؛ وبالتالي توهم العالم بأن هناك حرية صحفية وديمقراطية في السودان. وقد قامت مجلة سوداناو بدور كبير في هذا المجال، لكن حكومة الإنقاذ دمّرت سوداناو، وذلك موضوع مقال قادم إن شاء الله. د/ عبده مختار