لا أدري سبباً يخفي فيه أهل المؤتمر الوطني المذكّرة الشهيرة وقد اتَّفق الجميع، أهل المؤتمر وكل أهل السودان، على أنها مذكرة تصحيحية. لطالما فاخر أهل المؤتمر الوطني بشوراهم وديمقراطية حزبهم وتنظيماته وأفرعه المختلفة وإني لأشهد بأنهم أكثر الأحزاب على الإطلاق انفتاحاً على أنفسهم وعلى قواعدهم وغيرهم من الأحزاب. ولما ذكرته أسبابه فالمؤتمر الوطني قد ظلَّ في السلطة طيلة الفترة الحزبية الأخيرة وكان قبلها سيِّد الإنقاذ الحقيقي وقائدها العقلي، دونما منازع وهذا قد مكَّنه من تنظيم نفسه وسواعده وقواعده بحريَّة تامة واستقطاب كبير وفاعل في أجواء قد خلت منهم تماما حيث كانت القيادات قد رحلت بعيدا لتدير معارضة من الخارج. وفي الوقت الذي جفت وجففت معينات العمل السياسي وبخاصة المعينات المادية بالنسبة لغير أهل الانقاذ وبأسباب عديدة أهمها المصادرات والملاحقات وكل ذلك الذي كان في ذلك الزمان في الوقت الذي جفت ينابيع الأحزاب الأخرى أمطرت السماء وغمرت المعينات أودية المؤتمر الوطني فكانت هذه الدور الفسيحة وفي المواقع المتميزة وأحسن أهل المؤتمر إكمال بنياتهم الأساسية دورا وخطابا وتواصلا وتسجيلا للناخبين. وأفضى ذلك كله الى هذه الهيمنة الواضحة للعيان وعلى مستوى كل ولايات ومدن السودان وتكفي دليلا الأغلبية الكاسحة على كل المستويات والأصعدة في المجالس التشريعية قومية كانت أو ولائية وما تبع ذلك على صعيد الحكومات الولائية والحكومة المركزية حيث كانت مشاركة الأحزاب الأخرى مشاركة خجولة بنيت على عطايا المؤتمر الوطني ورغبته في مشاركة ما رغب في مشاركتهم من الأحزاب وبصورة مغايرة لما عرفه العالم عبر تاريخه الطويل من بناء المشاركة وحصصها النسبية على عدد نواب كل حزب بل إن الأمر المثير للانتباه أن من فاز في الانتخابات الأخيرة من الأحزاب الأخرى بالدوائر القومية دونما استثناء بدعم حزب المؤتمر الذي أخلى تلك الدوائر لهؤلاء النواب الفائزين دون أن يخرج بمرشح من منسوبيه في تلك الدوائر. إذن لماذا هذا التململ ولماذا هذا التوتر ولماذا هذا القلق على مستقبل المؤتمر الوطني أو الإنقاذيين في حكم السودان؟! لا يمكن أن نجيب على هذا السؤال دون أن ننظر ونتدبر فيما يجري من حولنا وما أثاره الربيع العربي من حراك وما أحدثه من تحولات ونتائج. والربيع العربي ليس حصرا على تلك البلدان التي ثار أهلها وهبوا على حكامهم وأنظمتهم التي ركز قادتها على أنفسهم وأذاقوا شعوبهم الأمرين. فالأمر الذي نتحدث عنه قد حدث في بلد لم يشهد ثورة أو هبة ولكنه شارك بلدان الربيع في قطف الثمار. هاهي الانتخابات تأتي بالإسلاميين في تونس وفي مصر والشواهد تقول في ليبيا لكن المفاجأة قد كانت في المغرب الذي جاءت انتخاباته بالإسلاميين بصورة سلسة تقبلتها كل الأحزاب السياسية في المغرب بل إن كل ما حدث في كل تلك البلدان قد تمخض عن حكومات ائتلافية تواضعا أمام الهموم الوطنية ورغبة في إرساء دعائم الديمقراطية والتحاور الوطني والتواصل الأخوي والتداول السلمي. وأعود لما بدأت به فأقول إنه لايكفي أن يعبر بعض قادة المؤتمر الوطني مرحبين بالمذكرة وأكثرهم يؤكد أنها لو عرضت عليه لوقع عليها دون تردد.. بدلا عن ذلك فإننا ودون حاجة لمعرفة من وراء المذكرة نريد أن نعرف فحواها ومحتواها وسنحمد على ذلك بعد الله من ينشرها علينا وغداً بإذن الله أواصل.