اخترع الأميركيون شبكة الانترنت، احتكروا أسرارها ودعائمها المفصلية، لكنهم سبقوا ذلك باختراع اللوبيات وتمكينها من التأثير في صناعة القرار بما يخدم مصالحها في عملية معقدة تذوب فيها الفواصل بين المصالح الوطنية والمصالح الخاصة بجماعات الضغط. تطورت الانترنت بسرعة جنونية دخلت في صميم الحياة العصرية، أصبحت ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في الاقتصاد والأمن والاتصالات وجميع المجالات الفردية والجماعية. إنها بالفعل الشبكة الأكثر تعقيدا في التاريخ لذا لا نستغرب وصفها بالعنكبوتية حتى هذا الوصف لم يعد كافيا للتعبير عن تشابك وتداخل المصالح والمنافع والأخطار والتهديدات فيها. أقنع الأمريكان العالم بأن الانترنت ما هي إلا تجسيد للانفتاح والحريات والحق في المعرفة والتعبير والتواصل دون قيود إلا في إطار ما تفرضه القوانين والأخلاقيات، تلقف العالم الرسالة بسرعة، سبق العامة الحكومات في التعاطي مع الشبكة الدولية باعتبارها كذلك. فضاء مفتوح دخله اللصوص والقراصنة والإرهابيون ومروجو الرذيلة، حاول المشرعون وفقهاء القانون عبر العالم تكييف القانون مع الانترنت لكنهم فشلوا بسبب فارق السرعة بين الاثنين. آخر هذه المحاولات قانونان بدأ الكونغرس الأميركي مناقشتهما، الأول يتعلق بمحاربة قرصنة المواد التي تنشر وتبث على الانترنت خاصة الأفلام والتسجيلات الموسيقية. أما الثاني فيتعلق بحقوق الملكية الفكرية في الشبكة، يقف خلف القانونين جماعات الضغط في هوليوود وصناعة السينما والموسيقى بحجة أنهم يتعرضون لخسائر ضخمة بسبب التعدي على مواد أنفقوا فيها ملايين الدولارات. لعبة أميركية بامتياز، لوبي يضغط وكونغرس يستجيب أول الأمر وقد يمضي بالاستجابة إلى نهايتها بإصدار قوانين إذا لم يجد معارضة تذكر. معارضو القانونين تحركوا بسرعة، كبريات الشركات من أمثال غوغل وياهو وتويتر وفيس بوك وويكيبيديا وغيرها إضافة إلى الشارع، خرجت المظاهرات في واشنطن ونيويورك للتنديد بالتعدي على قداسة الانترنت وحرية تداول المعلومات والبيانات عبرها، أمطر الجمهور الغاضب الكونغرس بمئات آلاف الرسائل الالكترونية، راجع الكونغرس نفسه، رأى أنه يواجه لوبيا قويا يتحرك في العالم برمته ويرفض إلزامه بتعقب كل من ينشر مقطعا من فيلم أو فيديو كليب، تراجع الكونغرس ووعد بإعادة النظر في صيغة القانونين الجديدين. الانترنت، من هنا إلى أين؟ سؤال يفرض نفسه بشأن العلاقة بين القانون من جهة والشبكة الدولية من جهة أخرى وما يفرضه ذلك من تحديات تستدعي من جميع الأطراف التكيف مع طبيعة الانترنت وليس العكس، مع البحث عن أرضية مشتركة تحول دون هضم حقوق الملكية الفكرية أو التعدي على جهد الآخرين. ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الانترنت أكبر من كل محاولات الإخضاع حتى وإن كان مصدرها نظام جماعات الضغط، فالانترنت أصبحت أكبر جماعة ضغط من نوعها في أميركا والعالم.