كانت زيارتي للاسكندرية استجابة لدعوة كريمة لحضور الاحتفال المقام هناك لتسليم يواكيم تشيسانو رئيس موزمبيق السابق جائزة مؤسسة مو ابراهيم العالمية للقيادة الافريقية الرشيدة. و قد تسلم تشيسانو الجائزة – و قيمتها خمسة ملايين دولار امريكي عدّاً نقدا، بالاضافة إلى مائتي الف دولار اخرى سنويا - في احتفال مهيب احتشد فيه عدد كبير من الشخصيات الدولية، اقيم في مكتبة الاسكندرية على الساحل المصري الشمالي. ومكتبة الاسكندرية، لفائدة من غابت عنهم المعلومة، هي أعرق واشهر المكتبات المصنفة ضمن الآثار الكلاسيكية في عالمنا اليوم و قد تأسست على يد خلفاء الاسكندر الاكبر عام 332 قبل الميلاد! و سأتطرق للاحتفال و عقابيله في الجزء الثاني من هذه السلسلة أن شاء الله. وكنت في مبتدأ الامر مترددا بعض الشيء في قبول الدعوة و تحمل ابتلاءاتها المتمثلة اساسا في السفر الطويل الممل عبر قارات ثلاث، غير أن رئيس تحرير صحيفة (الأحداث) آنذاك، والذي كان يسخرني لكتابة صفحة اسبوعية مقابل اجر زهيد، والذي كان هو ايضا ضمن قائمة المدعوين، غمرني بمكالمات هاتفية ورسائل الكترونية يحثني فيها على التوكل على الحي الدائم، والتوجه إلى الاسكندرية. ويقول بانني لو وافقت على السفر فانه سيكتب في الصفحة الاولى من الصحيفة أن قائمة الشخصيات المدعوة للحفل، من كافة انحاء العالم، شملت بيل كلينتون وكوفي عنان و توني بلير و مصطفى البطل، وسيكون الخبر بهذه الصيغة صحيحا و دقيقا. وهكذا اصاب ابن الباز وبذكاء شديد وتراً حساسا في نفسي فهو بلا ريب يعرف نقاط ضعفي معرفة وثيقة. و هكذا استقر رأيي على انه لابد من الاسكندرية وان طال السفر. أنهيت إلى حرمنا المصون السيدة الفضلى ايمان خبر القرار وحيثياته، فهزت رأسها الجميل الفتان تعجباً، وقالت: ربنا يكملك بعقلك! (2) هبطت قاهرة المعز فجر الخميس 23 نوفمبر و أنخت ناقتي عند فندق سميراميس العريق على ضفة النيل الخالد. نمت لساعات قليلة ثم خرجت من غرفتي قاصدا الباب الخارجي تشيعني عبارات "مع الف سلامة يا باشا". وصلت سيرا على الاقدام إلى المنطقة الواسعة الممتلئة ضجيجا التي يطلق عليها المصريون "وسط البلد"، فاصابني شيء من الارتباك، ذلك انني كنت احدث نفسي بانني اعرف القاهرة حق المعرفة. والواقع أن آخر مرة هبطت فيها ارض الكنانة كانت قبل اكثر من عشرين عاما، وكنت كلما زرتها اشاهد الازدحام وتلاطم الكتل البشرية وكثرة الحركة وسرعة ايقاع الحياة، واصنفه على انه "تدفق حيوي" و"فوضى خلاقة"، ثم استذكر الجزء الاول من الآية الكريمة (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ... (251))!سورة البقرة ولكن هذه المرة اختلف الامر عندي اختلافا شديدا، فقد بدا لي انني امام انفجار سكاني بالمعني الحقيقي الحرفي لا المجازي. رأيت نظاما غريبا للمرور يمشي معه الناس على الاقدام فوق الممرات الجانبية وفي منتصف الشارع جنبا إلى جنب مع السيارات. اشارات المرور تعمل بانتظام اصفر و اخضر و احمر، ولكن لا يبدو أن ذلك في حد ذاته يعني اي شيء لأي احد. و قفت لدقائق اتأمل الامواج البشرية المتلاطمة. خُيّل لي أن ما اراه انما هو نموذج مصغر ليوم الحشر! الفرق الوحيد هو أن الناس سيمشون في يوم الحشر الاصلي بغير ملابس. هذا إن لم يكن الشيخ حسن الترابي قد أتى بتخريج جديد، وأفاد، مثلاً، بأننا سنبعث ثم نمشى يوم القيامة بالبدلة الكاملة وربطة العنق! (3) تلوت الشهادتين ثم ألقيت بنفسي في موجة شارع سليمان باشا. لاحظت، رغم الازدحام المهول واختباط الاجساد وتشابكها احيانا، أن الناس يتحدثون ويناقشون قضاياهم الشخصية والعامة بصورة عادية وبارتياح شديد اثناء المشي والتوقف ثم استئناف المشي! اسمع بجانبي وبوضوح شديد امرأة تتحدث إلى آخرين يبدو انهم بعض افراد عائلتها: (دي عملت لنا صينية بطاطس و بامية و رز. ما هانش عليها تدبح لنا حتة فرخة). وبعد دقيقة اسمع رجلا يبدو عليه سمت الوقار يتحدث إلى شاب يسير بجانبه: ( يا بني كل شيء بالخناق الا الجواز بالاتفاق، لو ربنا كتب لك تتجوزها حتتجوزها). و ثالث لا أراه ولكن صوته يتدفق ويقتحم اذني: (يا ما قلت لك دي بنت فاجرة، ما صدقتنيش، أهي راحت بلغت عليك). انتابني فضول شديد، وتمنيت أن لو كان بوسعي أن اذهب إلى الرجل واسأله المزيد من التوضيح! استغربت بعض الشيء للانتشار الخرافي للحجاب وسط النساء المصريات. في لحظة من اللحظات خطر لي أن اتوقف وأرصد النساء لأري إن كنت سأنجح في العثور ولو على واحدة فقط غير محجبة، وكان الفشل من نصيبي. بدا لي غريبا كذلك منظر المنقبات اللائي يغطين كامل الوجه ويسرن مع ازواجهن، وقد وضعن معاصمهن حول معاصم الازواج، وهن يسرن في الشارع تماما كما يفعل الاوربيون! انتهت بي الموجة الاولى عند ميدان تمثال طلعت حرب حيث مكتبة مدبولي ومحلات جروبي. يا سلام، مدبولي وجروبي كانا دائما من الاماكن المفضلة عندي في القاهرة. ارقى الكتب تجدها في مدبولي و أحلى باسطة (بقلاوة بالمصري) وبسبوسة تجدهما في جروبي. دخلت المكتبة. اول من رأيت كان الحاج مدبولي صاحب الاسم شخصيا (كتبت هذه السلسلة قبل وفاته، رحمه الله). بدأ الحاج مدبولي حياته بائع جرائد على الرصيف وتطور حتى اصبح ناشرا من اشهر الناشرين العرب. كنت قد استمعت إلى قصة حياته في برنامج تلفزيوني، ثم رأيته قبل اسابيع قلائل في قناة الجزيرة يتحدث عن قضايا النشر في مصر. حييته و قلت له انني رأيته على شاشة الجزيرة قبل اسابيع. طرِب الرجل لكلماتي وانشرح صدره، وانبسطت اساريره، وابتسم لي ابتسامة عرضها السموات والارض، ثم شكرني. كنت ادرك مقدما أن كلماتي ستسعده، و لكنني لم اتصور انها ستسعده كل هذه السعادة! سألت الحاج مدبولي عن الكتب التي كان يفرشها على الارض خارج المحل بكميات كبيرة، وكانت تسهل وتختصر إلى حد كبير عملية مطالعة العناوين الجديدة فرد متحسرا: (ده كان زمان أوي يا بيه. دلوقت الحكومة منعتنا). طفت بالمكتبة وأجزائها المتعددة شديدة الضيق. سألت احد العاملين عن كتاب الطيب صالح "منسي" فرد: (کل كتب الطيب الصالح عندنا ما عدا "منسي"، اصله خلصان، بس حييجي من بيروت بعد اسبوعين)، و اختفى العامل لدقيقة واحدة ثم جاء ليردم امامي كمية مهولة من كتب الطيب صالح في طبعات متشابهة كتب عليها "مختارات" صادرة عن دار نجيب الريس بلندن. ثم قال: (الكتاب الواحد بستين جنيه يا بيه بس الحاج مدبولي آل عشان خاطر حضرتك بأربعين). قمت بعملية حسابية سريعة قسمت فيها اربعين على خمسة و نصف لاعرف القيمة بالدولار الامريكي. بعد أن حصلت على نتيجة القسمة شعرت برضا ونشوة غامرة: يا لسطوة الدولار و عظمته. و لكنني سرعان ما ذكرت خيبة الدولار امام الاسترليني و اليورو ابان الاجازة التي قضيتها في اوربا في يوليو الماضي فانكتمت! (4) هناك تغيير ظاهر تكاد تراه مكتوبا على الجدران، كما يقول الغربيون، تلمسه سواء في مكتبة مدبولي او مكتبة الشروق التي تقع في مواجهتها تماما او غيرها من المكتبات، وأن الثقافة المصرية تسطحت بعض الشيء. الكتب المعروضة وعناوينها عادة ما تعكس القضايا والموضوعات التي تحظى باهتمام عام، غير أن غالبية الموضوعات والعناوين الممتدة على مد البصر تفتقر لحد كبير إلى العمق والجدية. ولعل ذلك يتبدي بصورة اكثر جلاءً عند تتبع عناوين الكتب المعروضة في شوارع وسط البلد. جميع العناوين من عينة: فلان قاهر الموساد، فلان يكشف اخطر اسرار كذا، من قتل فلان؟، خفايا المؤامرة الدنيئة. ثم مئات الكتب الاسلامية تسد عليك عين الشمس من شاكلة: عذاب القبر، طريقك إلى الجنة، دليل الزوجة الصالحة إلى مرضاة زوجها، آداب الجماع في الاسلام، الفتاوى و الاحكام. و هي نوعية من الكتب كانت موجودة باستمرار على توالي الحقب و الازمان و لكنها كانت توجد دائما على هوامش اماكن العرض. الفرق الآن هو انها انتقلت من الهامش إلى القلب و الصدارة من حيث العرض و التوزيع. وعن الصحف و المجلات الاسلامية حدث و لا حرج، فقد خيّل لي أن نصف الشباب المصري يحرر ويصدر صحفا اسلامية. اعداد لا تقع تحت حصر من المطبوعات الاسلامية تصدر عن جمعيات و منظمات تقول أن هدفها الدعوة إلى الاسلام. نظرة عابرة على عناوين هذه الصحف تدلك على الفور أن القائمين بأمرها فقهاء من ذوي الوزن الخفيف. حيرني مانشيت رئيسي يتصدر صحيفة اسمها " الهداية" لسان حال رابطة الشباب المحمدي بمصر القديمة. يقول المانشيت: " الصيدلي المسلم خيرٌ من الصيدلي العادي"! اقتربت اكثر من الصحيفة المعلقة لاقرأ بضعة اسطر فهمت منها أن فقيه الرابطة يقصد أن يقول بأن شراء الادوية و العقاقير من صيدلي مسلم افضل لأن الشاري في هذه الحالة يحصل على اجر من الله سبحانه و تعالى، بينما يختلف الامر اذا تم الشراء من صيدلي مسيحي! انقدح في ذهني اول الامر أن الفقيه ربما كان له ابن صيدلي افتتح صيدلية جديدة. ولكنني وقفت كثيرا عند هذا المانشيت بعد ذلك واستغرقت في التأمل وامعان النظر في كلماته ومضمونه. عرفت طوال حياتي المقابلة الدينية واللغوية بين المسلم وغير المسلم او المسلم والمسيحي، و لكنني لم اسمع ابدا عن المقابلة بين انسان مسلم و انسان عادي! وقد استهوتني المقابلة للحظات عابرة، كوني مسلماً، اذ انها تجعل مني لأول مرة انساناً "غير عادي"، طالما أن الاخوة المسيحيين مجرد اناس"عاديين". و لكن القلق سرعان ما اعتورني و بدد البهجة المؤقتة التي كنت قد بدأت استشعارها، فقد تذكرت فجأة انني اقيم في الولاياتالمتحدة وجميع الصيادلة هناك امريكيون "عاديون"، مما يعني أن كثيرا من الاجر يتسرب من بين اصابعي، فيضيع عليّ، دون ذنب جنيته سوي اقامتي في دار العم سام، والاجر كما يقولون تلاقيط. هذه اذن احدى سلبيات الهجرة إلى هذا البلد الظالم اهله، لم اكن قد تنبهت اليها وتبينتها قبل أن يبصرني بها هذا الفقيه المصري "غيرالعادي"، نفعنا الله بعلمه! مصطفي عبدالعزيز البطل هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته