تستحق هذه الأيام أن نطلق عليها ايام الحزن فقد شهدت رحيل الكبار وترجل خلالها عدد كبير من الرموز الوطنية والقامات العلمية فى سوداننا الحبيب راحلين عن دنيانا الفانية الي دار الخلود مخلفين الاحزان والدموع والسواد.واستمرارا لسلسلة الاحزان المتعاقبة والأوجاع والمصائب المتسارعة التى باتت تأخذ بتلابيب بعضها البعض ترجل في هدؤ وصمت الراحل التوم محمد التوم الوزير والنائب البرلماني صاحب المواقف الوطنية والإنسانية المشهودة وتواصلت الاحزان بوفاة الزعيم المغفور له بإذن الله تعالى رجل الاعمال والبر والاحسان عبدالحكم طيفور الذي توقف قلبه الابيض الكبير وغابت برحيله البسمة الدائمة وترك اليتامى والأرامل والمساكين والفقراء يتجرعون لوعة غيابه وألم فراقه وهم يفتقدون هبة طيفور ونجدته لهم فى احلك الظروف وأعقدها.وماهى الا ايام معدودات فنعي لنا الناعى وفاة شيخ العرب والناظر على عبدالله ابوسن نائب الدائرة عشرة تمبول رغم أنف التزوير والذي كان رجلا صادق الوعد وفي العهد حسن الطبع لا نعرف له سوى المواقف النبيلة واللحظات الصادقة والتضحية والثبات على المبادئ وسنظل حزاني من بعده نستلهم من سيرته عبرا خالدة من افعاله وبطولته ورجولته وأخلاقه الكريمة. ولحق بركب الراحلين الى دار الخلود يوم الثلاثاء 12مايو 2015 الدكتور عثمان عبده وجاءنا نبأ وفاته عبر الهاتف كالصاعقة وقد أخذ منا الحزن مأخذا كبيرا بسبب رحيله وبسبب عدم حضورنا للمشاركة فى وداع الراحل المقيم الى مثواه الأخير علنا نواسي أنفسنا قبل مواساة أهل الفقيد المفجوعين بهذا الرحيل الذي لم يكن مجرد موت شخص عزيز وإنما موت دنيا بأكملها بالنسبة لزوجته المكلومة شريفة شريكة حياته ورفيقة دربه وتوأم روحه والتى لا تعرف كيف تعيش بدونه ولا نملك الا أن ندعو لها بالصبر الجميل وكذلك بالنسبة لابنائه ايمن واكرم واحمد وجيهان. برحيل الدكتور عثمان عبده اختصاصي الأمراض النفسية والعصبية العلامة المعروف تكون البلاد قد ودعت قامة طبية وهامة علمية شاركت مع كوكبة من الرعيل الاول للأطباء السودانيين في التاسيس لانطلاقة العمل الطبي والصحي بالسودان فهو من جيل الرواد التاريخيين في مجال الطب النفسي حيث كرس جهوده من اجل تطوير مهنة الطب والارتقاء بها وكان مبرزا في هذا الجانب وأمضى عقودا طويلة من الزمن راهبا في محراب العلم مخلفا ذخيرة ثرة من الاعمال البحثية التى تجعل منه واحدا من اعظم العلماء السودانيين في مجال الطب النفسي احترم المهنة وتعامل مع المرضى بإنسانية متناهية وكان بيته بالصافية مكانا لاستقبال الحالات الطارئة في كل الأوقات يقابلهم بمنتهى البشاشة ويقدم لهم كل ما يمكن تقديمه من علاج وكان نموذجا فريدا من الأطباء الذين انحازوا للمهنة وتمسكوا بأخلاقياتها واتخذوا من خدمة المريض ومن رسم الابتسامة على شفاه هدفا لم يحيدوا عنه قيد انملة بالرغم من تعقد الظروف وتزايد المغريات التى اوشكت أن تجعل من الطب في هذا الزمن مجرد صنعة ومن الطبيب مجرد تاجر وفي هذا الصدد فانى أوجه الدعوة لشباب الأطباء السودانيين أن يتعلموا أصول المهنة واحترام أخلاقياتها من سيرة الدكتور عثمان عبده وامثاله من الرعيل الاول من الأطباء المفعمين بالصدق والمشبعين بالمهنية والمتطبعين بالتواضع والمؤمنين بأن الطب مهنة إنسانية هدفها إسعاد البشرية. عشت لفترة زمنية ليست بالقصيرة جارا للفقيد العزيز ورأيت وشاهدت كيف كان يقوم بدوره في ميادين الخير والعطاء والإنسانية والاحسان بمنتهى التواضع والزهد والابتعاد عن الاضواء فلا يمن على احد بخدمة ولا يسعى نحو مغنم او منصب او جاه لانه كان يستمتع بالوهب لا بالكسب.كان ديدنه العمل بصدق وصمت دون ادعاء او مباهاة ولذلك كان محبوبا بين جيرانه لانه كان قريبا من الكل وكان إنسانا فاضلا يحمل كميات من الحب والتقدير لكل أهل الحي والجيران مما جعلهم يحسون ويشعرون بأبويته وبعطفه وحنانه الكبير تجاه الجميع وبلا شك برحيله سيختفي عنهم بجسده ولكنه سيظل باقيا في قلوبهم وعقولهم وافكارهم. كنت اسعد سنويا بمؤانسة الفقيد لفترات طويلة خلال زياراته الصيفية الراتبة الى لندن هو وأسرته التى انضم الى ركبها مؤخرا حفيده الصغير (يوسف اشرف )الذى كان محل اهتمام ورعاية ومحبة جده الدكتور عثمان عبده .كنت استمتع بالحديث مع الفقيد العزيز وأستفيد من درره الغوالى حيث كان ابو ايمن موسوعي المعرفة واسع الثقافة غنى التجربة كثير المعلومات لدرجة جعلتنى على قناعة كبيرة بان الرجل بمفرده يساوي حزبا بكامله كان رجلا وجيها بالغ الاناقة حسن السمت جميل المظهر طيب المعشر حلو العبارة ومتحدثا لبقا ومشوقا يعرف اختيار الموضوع ويجيد اُسلوب السرد ويأسرك بحديثه السحري ويأخذك الى حيث يريد ولا تمل الاستماع اليه ولا تملك الا أن تطلب المزيد. الفقيد الدكتور عثمان عبده كان من المفترض أن يغادر الى الخارج في رحلة علاجية ولكن قبل أن تكتمل اجراءاتها داهمه المرض وادخله المستشفى وهناك فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها وحملته الأكف والأكتاف الى مقابر شمبات مرورا بشوارع الخرطوم بحري التى كان يحبها ويعشقها وهى تبادله نفس الإحساس فكم كان هذا الرجل عظيما في حياته ومماته عليه رحمة الله ورضوانه. برحيل الدكتور عثمان عبده رحمه الله اسدل الستار على تاريخ مشرق وطويت صفحة ثرية مليئة بجلائل الاعمال وغابت شمس الحكمة والحنكة والخبرة التى قل أن يجود الزمان بمثلها الا أن عزاءنا انه خلف من بعده زوجة صالحة واعية اطال الله عمرها وأبناء بررة سيواصلون دوره اما في مجال مهنته وتخصصه فإن ابنته الدكتورة جيهان ستعمل فى عيادته وترعى مرضاه وتكمل مسيرته وتحمل رسالته الطبية وهي بلا شك قادرة ومؤهلة للقيام بهذه المهمة لان والدها قد علمها التمسك بالقيم والمبادئ وغرس فيها حب التواضع وثقافة الابتسامة. الا رحم الله الدكتور عثمان عبده رحمة واسعة وتغمده بواسع رحمته ومغفرته وادخله فسيح جناته (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). بقلم :حاتم السر المحامي*