فعل خيراً الأستاذ محجوب عروة ،عندما تراجع بصورة - تليق به كأحد رواد صناعة الصحافة في السودان- تراجع عن موقفه المتشكك والمزدري لمجهودات بعض زملائه الكتاب في مكافحة ومناهضة الفساد. أستاذ محجوب في مقاله الأول بعنوان (لا أكتب عن الفساد)، حمل على الذين يكتبون حول قضايا الفساد حينما قال : (ولعل القارئ يلاحظ أنني قليل الكتابة عن قضايا الفساد لا خوفاً ورهبة أو رغبة ومطمعاً بل لأني اتفق تماماً مع المعلقين في مواقع الشبكة أنه من المعيب أن تكشف وتهاجم صغار الفاسدين ولا تستطيع أن(تهبش الكبار والقطط السمان والفاسدين الحقيقيين)..بل أكاد أجزم أنه ما كتب عن فساد أشخاص إلا كان تسريباً من جهات لها من المعلومات والمستندات الكثير. وهنا ينشأ سؤال هل بدأ هذا الفساد الآن فقط أم كما تقول الوثائق له سنوات وسنوات؟ وهل لهذا صلة بصراع خفي يدور خلف الكواليس بين قيادات تهدف لتصفية حساباتها وأجندتها الخاصة ويريد من تسريب تلك الوثائق – وهي صحيحة دون شك – أن يضرب بها الآخر المنافس؟ طالما الأمر كذلك فلماذا نقوم نحن معشر الصحفيين والكتاب بخدمة أجندة الآخرين؟)!! ورغم أن الأستاذ محجوب تراجع عن هذه الرؤية ولو نسبياً إلا أنها تحمل آراء جديرة بالمناقشة لأنها تتردد من قبل جهات عديدة. الفساد هو الفساد ارتكبه صغير أم كبير فهو لا يقاس بأوزان فاعليه ولا بحجم المفعول به! الفساد موجود في كل المجتمعات والدول بنسب متفاوتة،هناك فساد خاص بالحاكمين وأخرى بالمعارضين، وفي الصحافة هناك من ينافق الحاكمين ويوجد من ينافق المعارضين،عندما يشد أوتار عوده على أنغامهم ويغني على سلمهم الموسيقي. والأوراق والمستندات هي التي تقوي الموقف القانوني والأخلاقي للصحف وهي تتناول قضايا الفساد! من غير المجدي إطلاق الاتهامات فوق الرؤوس دون تحديد وتسمية المعين. قضية واحدة بحيثياتها ومستنداتها تنجز على أرض الواقع أنفع من الذي تفعله آلاف الاتهامات الجزافية التي تعمم ولا تخصص وتكني ولا تصرح..! أسوأ ما أضر بدور الصحافة في إنجاز تلك المهمة هو عملية التسييس التي تتم لمفردة الفساد، سبق وأن قلت : (هناك من يستخدم الحديث عن الفساد كذراع سياسي لإسقاط الحكومة أو إضعافها،عبر الدعاية السياسية الفجة وفبركة القصص والشائعات' ولكنه ينسى أن الأكاذيب بضاعة سريعة التلف. و اشتباه الحكومة في أحاديث الفساد يضعف حساسيتها تجاه المفردة، فتصبح في بعض الأحيان تعتمد على سياسة استغشاء الثياب والنفي المطلق). ولوجود أزمة في إدارة ومراقبة المال العام وتواطؤ في التستر على التجاوزات، لا يضير الصحافة شيء إذا استفادت من تعارض المصالح ومن تسريب المعلومات في القيام بدورها في الكشف عن الفساد. هذا ما تفعله الصحافة في كل أنحاء العالم. أن تتعامل مع المعلومات والوثائق بغض النظر عن مصدرها ونواياه تجاه الآخرين. هل من المنطق أن ترفض الصحافة نشر أخبار مسؤول لأنه من الأوزان الخفيفة وتجلس على ضفة النهر في انتظار أسماك القرش! وهل هناك من ينصح الصحافيين بوضع ملفات الفساد في الأدراج لأنها تخدم مصلحة طرف ضد آخر في انتظار ملفات - في ظهر الغيب- تدينهما الاثنين! الصحافة الآن تسعى لتقوية الجهاز المناعي للدولة في مواجهة جراثيم الفساد. لأن المجتمع اقترب من مرحلة التطبع مع قصص الفساد والمفسدين! الصحافة الآن تنفض الغبار عن وجدان المجتمع ليواجه كل أشكال التجاوزات بكل أدوات المقاومة (اليد واللسان والقلب)!