دموع..وعبرات..وكلمات ليست كالكلمات.! المعمورة: أحمد دندش/ تصوير: سعيد عباس قليل هي المشاهد التى تنتزع (ناصية) الاهتمام وتستأسد على كل رفيقاتها في احتكارية استدعاء الذكرى، ولعل المشاهد التى تجسدت في رحيل عملاق الأغنية السودانية محمد وردي، كانت هي الأوفر حظاً في ذلك، فالنفوس كانت مابين التردد والتخبط والحزن الأليم تحتبس بقايا مدرار دمع جادت سحائبه وهطلت لتبلل وسادة الفراق من جديد، وكذلك المشاهد في الليلة الأخيرة وإسدال الستار على عزاء الموسيقار الكبير محمد وردي بضاحية المعمورة بالخرطوم، تلك الليلة التى تدفقت فيها الأحزان وغمرت المكان، والكل يبحث عن (نور العين) الذى اختطفته يد المنون. (1) حضور متنوع شكل ملامح وتفاصيل الأمسية، فنانون، وأدباء، وسياسيون، ودستوريون، وشعراء، وإعلاميون، وعشرات المواطنين الذين لم تجمعهم بوردي صلة أقوى من رباط الحب، الذى إذا ماتمتن فلن يوازيه رباط آخر. (2) السرادق الحزين الذى نامت أطرافه على أرض المعمورة وهي تستعد للطي والمغادرة، كان حافلاً بالشخصيات العامة ونجوم المجتمع، بينما كان السيد وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين حاضراً منذ وقت مبكر، وجاء مستقلاً سيارته بنفسه، واختار مكاناً وسطياً بين الجموع دون أن تلتقطه العيون، بينما توزع بقية الحاضرين في صمت، في انتظار إشارة البدء لمراسم الوداع الأخير. (3) أبناء المرحوم كانوا في المدخل للسرادق، وعيونهم تحكي بصدق عن الفقد، بينما وقف بجانبهم بعض أصدقاء الراحل مشدين من أزرهم، ومعضدين لهمتهم، وحابسين لدمع المآقي، الذى كان يصر على الحضور كلما عز الحديث. (4) الإعلامي المخضرم علم الدين حامد أدار دفة الأمسية بهدوئه المحنك، ونظرته الثاقبة فظل يسرد على الحضور تاريخاً كبيراً وسيرة رجل استثنائي اسمه (محمد وردي) قبل أن يطلب من الحضور قراءة سورة الصمد للراحل أحد عشر مرة، ليتلو كل السرادق في صوت واحد الآيات الكريمات، ويترحم على روح الفقيد. (5) كلمات عديدة سرت في تلك الأمسية، وكلها كانت تفيض بحزن عميق ونبرة لن نجد أفضل من وصفها سوى عبارة (أليمة)، لنوفيها حقها، فبالرغم من الوفاء الذى حملته الكلمات للراحل إلا أن حزنها كان يناطح الحروف ويسبقها في أحايين كثيرة إلى (ميس) الوصول. (6) الأحزاب السياسية كانت أيضاً هناك وفي مقدمتهم الوطني والشيوعي والأمة وبقية العقد النضيد، وألقى ممثلوها كلماتهم في حق الراحل، فجاءت كلها موزونة، وكأنها تأبى أن تختلف عن شخصية الراحل ومبادئه في الحياة، ولعل حضور تلك الأحزاب جميعها كان إشارة واضحة لمكانة هذا الرجل في قلوب الناس جميعهم، واستفتاء حقيقي على أن الكل يفتقدون بالفعل جزءاً عزيزاً من هذا الوطن. (7) اتحاد الفنانين ألقى كلمة ضافية بلسان رئيسه (حمد الريح) الذى ابتدر الحديث بأنه يتشرف أن يتحدث عن قامة مثل وردي، وعدد مآثره قبل أن يلقي الأستاذ معتصم فضل مدير الإذاعة القومية كلمات ضافيات عن الراحل وإسهاماته في الإذاعة وتقديره لها وتقديرها له والمكانة الخاصة التى تجمع بينهما. (8) كلمات أخرى عزيزة وتنضح بالحزن تخللت الأمسية، وصوت بكاء خافت خلف الجموع، وامرأة تلتحف ثوب الدموع لتعبر بها عن حالتها في تلك اللحظات، ومثيلاتها كثر بعد أن احتلت حواء الجانب الجنوبي من سرادق العزاء في حضور أكد أيضاً أن (النواعم) لم يفتهن قطار الوفاء ولم يبتعد كثيراً عن محطات التلويح الحزينة في الليلة الأخيرة..ليسدل الستار على ليلة وداع وردي الأخيرة بضاحية المعمورة..ولييمم المعزون وجوههم مغادرين المكان..ولتبقى سيرة ذلك الهرم الفني على كل لسان..(إنا لله وإنا إليه راجعون.)