في مساء التاسع عشر من فبراير هذا العام لفظ محمد عثمان آخر أنفاسه وعبر الجسر إلى الضفة الأخرى، ذهب بجسده لكنه سيظل باقياً بإبداعه المجبول بطمي النيل والمغروس في وجدان الشعب كنخلة، ترك وردي رصيداً هائلاً من الإبداع والكبرياء والشموخ فقد رفع وردي من قيمة المبدع ولم يكن ليرضى بأي استهانة أو استحقاق بهذه القيمة، ولم يكن يجامل في هذا الأمر، ولم تكن مثل هذه الكبرياء مقبولة من مجتمع تسود فيه العشائرية والقبلية، وهذا مما جلب له الكثير من السخط من البعض، لكن وردي وبكل عناد النوبي الصميم لم يتراجع واستطاع في نهاية الأمر إرساء تقليد احترام المبدع المغني والمطرب. أمر آخر نلاحظه في تجربة المبدع وهو احترام الموهبة والحرص على صقلها بالدربة والمران والدأب الحثيث مثل دأب النمل، فوردي لم يعتمد على موهبته ولم يعتمد على العلاقات العامة أو على الشلة بل انطلق على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان يطور من قدراته الإبداعية وموهبته الضخمة في الأداء والتلحين، لهذا لم يكن غريباً أن يكون وردي من أوائل الملحنين الذين حرصوا على خروج الأغنية السودانية من محليتها إلى آفاق العالمية وذلك عندما عهد إلى الموسيقار العالمي أندريا رايدر بتوزيع أغنية الود. هذه التجربة بلا شك واحدة من إضافات وردي في إثراء الأغنية السودانية، أضف لهذا أن وردي لم يكن يستسهل التجربة الغنائية أو يجامل هذا الشاعر أو ذاك ليغني النص الضعيف المتهالك، لهذا غنى وردي لأعظم الشعراء السودانيين مثل صلاح أحمد إبراهيم والفيتوري محمد المكي إبراهيم وسيد أحمد الحردلو وعمر الدوش وكجراي ومحجوب شريف ومبارك بشير والتجاني سعيد وكذلك غنى لأعظم شعراء الأغنية مثل إسماعيل حسن وإسحاق الحلنقي وأبو قطاطي. وكان وردي إضافة لكل هذا يؤمن بضرورة العمل الجماعي أو عمل الفريق فعلى الرغم من إمكاناته الهائلة حرص على تكوين فرقة موسيقية تضم أعظم العازفين وخير مثال لما نقول الفرقة التي ظلت تصاحبه طوال السبعينات حينما قدم أعظم أغنياته بل من أعظم الأغنيات السودانية على الإطلاق مثل: بناديها وجميلة ومستحيلة لمحجوب شريف والحزن القديم لعمر الطيب الدوش ومن الظلم عدم الإشارة لهذه الفرقة الماسية التي كانت جزءاً أصيلاً من تجربة محمد وردي، ومن هذه الفرقة نذكر الراحلين عليهم رحمة الله علي ميرغني وعبد الرحمن عبد الله وعبد العزيز حسن (عصفور) ونور الدين مسمار وصلاح دهب وعبد الله عربي ومحمديه وأحمد بريس ومحمد الحسن الشايقي وعوض رحمة ومحمد جبريل وحرقل وحمزة سعيد عافاه الله وشفاه، لا بد من الإشارة لما قامت به هذه الفرقة الذهبية في تحويل أفكار وردي اللحنية إلى موسيقى سيظل يصدح بها الإنسان السوداني أبد الدهر، وكذلك لا بد من الإشارة إلى إضافات وردي إلى الموسيقى السودانية ونذكر منها محاولة وردي الاستفادة من الطمبور، وقد ذكر لي العازف نور الدين مسمار أن وردي صنع حواراً موسيقياً بين الطمبور وأظن أن وردي هو الذي عزفه وبين الساكسفون الذي عزفه محمد الحسن الشايقي وذلك في أغنية الود قبل أن يوزعها أندريا رايدر وهذه التجربة موجودة في مكتبة التلفزيون الذي ما فتئ يحرم المجتمع السوداني منها لسبب لا نعلمه. نخلص من ذلك إلى أن نجاح مسيرة وردي لم تأت من فراغ بل بالكدح والمثابرة وعلى ناشئة الفنانين الذين يستعجلون الشهرة والذين نطلق عليهم الألقاب مثل الإمبراطور والملك وهلم جرا على هؤلاء الناشئة أخذ العظة والدرس والتأمل في تجربة فنان عملاق رحل عن دنيانا هو محمد عثمان وردي، فنانٍ إبداعه من طمي النيل.