محمد الأسباط وردي.. "في أحزان عيون الناس" ليلة السبت الماضي، قبل نحو أسبوع، انطفأت شمس عزيزة من شموس بلادنا الساطعات، بعد أكثر من (50) عاماً من الشدو بجميل الأغنيات وبديع الأناشيد الملهبات، وأعذب الألحان الشجيات. غيب الموت فنان أفريقيا وإمبراطور الطرب السوداني الرفيع الموسيقار محمد وردي. وبرحيله فقد السودان أحد أبرع مبدعيه في حقل الموسيقى والغناء والتنوير، ولم يبقَ سوى النيل وحيداً يكابد أحزانه ووجعه الدفين. كان وردي على مدى ست عقود من الزمان يمنح السودانيين بعض أعذب أغنياتهم، ورفع خلال مسيرته المديدة سقف الأغنيات الروائع، الكاملة المثالية من حيث الكلمات والألحان والأداء، فسكنت أغنياته أفئدة السودانيين، وأضحت موسيقاه علامة من علامات البلاد، وكان رائداً في مجال الأغنيات والأناشيد الوطنية ببلادنا وضع بصمة بالغة الخصوصية والتميز والفرادة. كان وردي رحيلاً عميقاً في مفاصل القصائد وثنايا الألحان يذهب إلى مظان الينابيع الصافيات مباشرة ليغرف منها الروائع ويعيد إنتاجها أغنيات كاملة العناصر، وينشرها في الناس فتستقر في الأفئدة وتحتلها إلى الأبد، ملأ مكانه الرفيع عندما صاغ ألحاناً فريدة لقصائد بعض أبرز شعراء بلادنا ولوَنها بصوته البديع الموشى بالحنين وبالشجن، فصارت علامات فارقات في مسيرة الأغنية السودانية المعاصرة، وغدت مع وردي كلمات محجوب شريف وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم والدوش والتيجاني سعيد وإسماعيل حسن وإسحاق الحلنقي وأبوقطاطي وغيرهم ممن تغنى وردي بكلماتهم، غدت علامات فارقات في دوحة الأغنية السودانية. كنا نشاهد تسجيلاً لحفل للموسيقار الراحل وردي أقامه بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا: معاوية يس وأنا في منزله بضاحية المعادي بالقاهرة، وكان الجمهور غفيراً لدرجة دفعت بمنظمي الحفل لإقامته باستاد أديس الدولي الذي يسع لنحو (30) ألف متفرج، قلت له: "ما شاء الله يا أستاذ جمهور بالآلاف في حفل واحد" فرد بالقول: "محبة الناس دي نعمة"، وقد كان وردي طوال مسيرته العامرة ببديع الأغنيات، يحظى بنعمة محبي فنه في بلدان الجوار الأفريقي وله من المعجبين من تفوق أعدادهم أعداد جميع أهل السودان بشماله وجنوبه مجتمعين، وفي أثيوبيا القريبة يعتبر وردي أيقونة الأغنية الأفريقية. كان وردي ملاذاً للعاشقين يمنحهم أغنيات الوجد الأكيد والمحبة الدافقة ويمنحهم آمال المحبين المنتظرة، ورفيقاً للثائرين يلهمهم أسباب التدافع ويشعل فيهم جذوات الحماسة ويغني لنصرهم عند ذهاب الاستبداد وبزوغ شموس صباحات الحرية، وكان نصيراً للمحرومين بمواقفه السياسية والنضالية التي دفع ثمنها غالياً في غياهب السجون وعذابات المنافي. وعند موارته الثرى، صبيحة (الأحد) الماضي بمقابر فاروق بالخرطوم، كان جامع للمتناقضات كان كأنه "صوت فيروز الموزع بالتساوي بين طائفتين" – كما عبر محمود درويش في سنوات الحرب الأهلية في لبنان - جاءت جموع المودعين من مختلف جهات السياسة والفكر والأيديولوجيا، كان هناك رموز اليمين واليسار وما بينهما، وكان اللافت الحضور الكبير لمن تبقى من الجنوبيين بالخرطوم، وأعداد كبيرة من الأثيوبيين، وكانت لحظة استفتاء حقيقية لقيمة وردي وقامته. وكان الموسيقار الراحل قد نال تقديراً أفريقياً مرموقاً بنيله جائزة "الأسطوانة البلاتينية" لأفضل فنان في أفريقيا، كما حاز تقديراً عالمياً بمنحه جائزة "بابلو نيرودا"، وقبل ذلك عاش وردي ومات وهو يحصد محبة السودانيين والأفارقة تقديراً لفنه الرفيع وعطائه الجزيل في حقلي الغناء والموسيقى.