محمد الأسباط حميد.. " دروَش شردت من الضريح" قبل أن تجف المآقي التي ذرفت دموع الوداع الحزين على غياب هرم الأغنية السودانية فنان أفريقيا الأول الموسيقار الراحل "محمد وردي" رزء السودانيون يوم (الثلاثاء) الماضي برحيل الشاعر الكبير صاحب الصوت المغاير، مبدع القصائد النادرات "محمد الحسن سالم حميد" الذي شق نبأ نعيه على محبي ابداعه الشعري وأصدقائه وزملائه من قبيلة المبدعين، وعارفي دروبه الفاتنة التي شقها في غابة كثيفة الأشواك في معالجة الكلمات العامية في قالب بالغ الخصوصية والفرادة. "الحال وراك كيفن تسر باقيلك انتي بلاك في زين ما تهشم ابريق الرضا خنست نسيمات السمح والبسمه زي حبه قمح لفحا وطفر طيرا كتر أورث عصافيري الضنى يبس غناها مع الفجر هطل على الشجر الهموم وشاشات نهارات العنا عانيت وراك جنس عنا" – (نادوس) منذ أن طلع "حميد" على الناس في سنوات الثمانين من القرن الماضي، عبر أشرطة "الكاسيت" التي كانت تحوي روائعه الشعرية، ويتداولها أصدقاؤه ومعجبوه، في سرية تامة، وبحب أكيد، إبان أخريات سنوات نميري القمعية، كان صوتاً صافياً وعميقاً ودالاً، في كلماته وصوره ومعالجاته واستعاراته ورؤيته، وارتفع بالقصيدة الشعبية ذات العمق الفكري والسياسي إلى مقامات فنية رفيعة سمت عالياً بسقف القصيدة "السياسية الشعبية"، وارتقت بالقصيدة العامية إلى قمم لم ترتادها من قبل، وزاوج بين عادية الموضوعات ورفعة المعالجات الشعرية في نصوص أضحت علامات في مسيرة الشعر السوداني المعاصر، وفج درباً صعباً ووعراً للقصيدة السياسية أوصلها عبره إلى مدارك جديدة وعميقة ودالة. ودخل بشعره البديع وكلماته الأنيقة الصافية النابعة من غبش الناس العاديين – الغلابة والأطفال والنساء المنسيات - وقسوة حياتهم، ومعاناتهم، بيوت السودانيين عبر صوت المبدع الكبير الموسيقار والمغني الراحل رفيق دربه الإبداعي الاستثنائي "مصطفى سيد أحمد" عندما تغنى الأخير بروائعه التي أضحت علامات فارقات في خارطة الأغنية السودانية من لدن "يامطر عز الحريق" وإخواتها، وحتى "كل ما تباعد بينا عوارض كل ما هواك يا طيبة مكني"، وغير هذه وتلك من الروائع التي جملت الأغنية السودانية وحقنتها بعقار المغايرة والاختلاف، مروراً ب"نورة" التي تغنت بها مجموعة "عقد الجلاد" رسم "حميد" خطاً مستقيماً لأغنيات ذات خصوصية فاتنة صنعت خصيصاً لأذواق عصرها فحفظها الناس ورددها الملايين ومازالت طازحة كأنها كتبت ولحنت وتغنى بها المغنون أمس. "حميد" شاعر الطين والمزارع والشجر والعصافير في شعره الكثير من مكونات الطبيعة البكر التي انجبته، وصاغت وجدانه، وحشدت ذاكرته بالجمال الصافي الأنيق، فكان وفياً لها فأعاد إنتاجها صورا بالغة الشاعرية والرفعة في نصوصه لترصع أشعاره بالجمال الباذخ الرفيع الذي جعل من شعر "حميد" نسيجاً وحده تقاس عليه قامات القصائد. "رقد النيل هبّود، بالوجمة، نفدت شيمة بقدرة قادر، طارت غيمة وصارت باكر، باكر رحمة مدّت وندّت وشدّت خيل الحيل بالبسمة نخل الغبش الدغش إتلمَّا الأبنوس الجاسر يمّة ....؟ هبَّ تبلدي تحدي وهمّة" يوم (الثلاثاء) الماضي في مقابر "البنداري" بالحاج يوسف كان وداع "حميد" استفتاء محبة لفنه الرفيع وشخصه البسيط "بساطة الفقراء، والمتصوفة والعارفين"، وكان المشيعون من كل حدب وصوب وجيل وجهة في الفكر والسياسة والجغرافيا، ألا رحم الله "حميد" بقدر ما أبدع وأعطى وأنزل سبحانه وتعالى على قبره شآبيب الرحمة وأسكنه الفردوس مع الصديقين والشهداء والصالحين. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته