اكتسبت مقابر البنداري التي تقع في الناحية الشمالية الشرقية لضاحية الحاج يوسف شهرة واسعة بعد أن توسد ثراها ثلاثة من المبدعين الكبار، ولعل تلك البقعة النائية كانت في أشد الحاجة لهذا الاهتمام فقد ضمت العديد من البسطاء الغلابة والذين ارتكز إبداع الثلاثي الراحل على عمودهم، فكانوا الوقود الجمالي، ولسان حالهم يؤكد أن المشروع الابداعي لا ينتهي بانتهاء مراسم الدفن. الدرامي والشاعر مجدي النور كان سباقا في الرحيل الى البنداري، حيث حزم مشروعه الابداعي وترك لنا الحيرة والأسف والبحث والتقصي في دلالات هذا المشروع الكبير ، وكانت الحاج يوسف ملهمته الاولى- شعرا ودراما - جاء مجدي النور محمد الى الحياة في بحري" يناير 1967" وهو كاتب ومخرج مسرحي وتلفزيوني وشاعر صدر ديوان فاجأني النهار 2005 ، تخرج في معهد الموسيقى والمسرح إخراج مسرحي 1994 وقدم العديد من المسرحيات في مسارح السودان المختلفة في العاصمة والولايات مثل عجلة جادين الترزي والحلة القامت هسع وغيرها ، اخرج للتلفزيون السوداني صهيل العقاب ولمسة وفاء وغيرها، شارك في تأسيس جماعتي المسرح التجريبي والنفير المسرحية ، يعتبر من طلائع مسرح المهمشين ، استقر في الحاج يوسف وتوفي إثر حادث حركة يوم 13 ديسمبر 2006 وأصبح مقره الأبدي في مقابر البنداري! أما الفنان زيدان ابراهيم فقد تنقل في العديد من أحياء أم درمان في بيوت الايجار ، ثم استقر به المقام في ملكه الخاص في الشقلة – قريبا جدا من البنداري- وقصة هذا البيت معروفة حيث اشترته والدته وشيدته بالتعاون مع صديقه ومدير أعماله دون أن يدري زيدان بذلك وعندما علم به لم يتردد في الرحيل فسكن وسط الغلابة والمسحوقين وكان مستمتعا بذلك، حتى رحل فجر السبت 24 (سبتمبر) 2011 بقاهرة المعز ووُري جثمانه بثرى البنداري مساء نفس اليوم. ثم لحق بهم عصر يوم الاربعاء الماضي الشاعر محمد الحسن سالم حميد والذي رفض السكن في العاصمة وآثر البقاء في نوري، وكان مرتبطا بالحاج يوسف، حيث يوجد منزل شقيقه وبقية أفراد أسرته في شارع الردمية محطة شندي فوق .. فاكتسبت الحاج يوسف بهذا الرحيل المهيب ثلاثية الموت الرهيب. تشييع الجثامين الثلاثة شكّل – بهذه المعطيات- نهاية طبيعية لحياة ارتبطت بالثقافة والإرث السوداني الأصيل والذي تجسد في كل أعمالهم الإبداعية، من حيث التلقائية، ثم الحزن الصادق أو الصدق الحزين، والتدفق التلقائي من عامة الناس نحو المقابر لحضور التشييع ، وغياب الطابع الرسمي للتشييع وإن ظهرت بعض ملامحه في حالة زيدان، لكن وبكل المقاييس، فإن ما كان يحدث في البكري واحمد شرفي من "برستيج الموت" غاب تماما في البنداري! وبهذا يكون المشروع الإبداعي للثلاثي قد اكتسب بُعده الشعبي فوق وتحت التراب وهذه من نعم الله تعالى ومن حُسن الختام ، وهذه الملاحظات تستوجب أن يجد سكان الهامش – سواء في الحاج يوسف أو غيرها من هوامش المركز- التقدير والثناء والاهتمام بإنشاء البنيات التحتية للفنون والثقافة فقد أصبحوا مركزا للفكر ومنارات للإشعاش المعرفي والإبداعي ، والحاج يوسف مليئة بالمبدعين الاصيلين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظم في تقديم عطائه وينتظر دوره في اللحاق بمبدعي البنداري!