غريب أمر العلاقات بين جوباوالخرطوم - فأبرز ما يميزها قدرتها على الاحتفاظ بالعصي والجزرات "عالية خفاقة" بحيث لا يتعب أي منهما نفسه في التلويح بالعصا أو الجزرة وقت يشاء وكيفما يشاء – رغم قناعة الطرفين بعدم دفع الأمور الى حافة الهاوية أي الحرب المباشرة لأنها لا تخدم هذا ولا ذاك. لندع التاريخ جانبا لنكن"أولاد النهار ده" وهذا يستدعي التحلي بقدر من البراغماتية والمناورة والابتعاد عن منهج المزايدات – إضافة الى حصر أمر هذه العلاقات في دائرة ضيقة من صناع القرار والخبراء المتمرسين في عمليات التفاوض – بعبارة أخرى لا بد من إبعاد علاقات الخرطوموجوبا من المنابر المفتوحة وتحصينها ضد أصحاب الأغراض والأصوات العالية ممن ينادون بالحرب ويبشرون بها. أخيرا وقع الطرفان اتفاقا إطاريا سمي باتفاق الحريات الأربعة دافعت عنه الحكومة وتحملت في سبيله الكثير من التشكيك والحملات المضادة بقيادة منبر السلام العادل لصاحبه الطيب مصطفى – بالتزامن عادت الحكومة ذاتها لإطلاق التهديدات والحديث عن الحرب – الأوضاع في جوبا ليست أفضل حالا – فالجنوب لا يزال يراهن على دعم المتمردين في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وإن أنكر ذلك – ما يؤكد أهمية التأسيس لقاعدة من الثقة بين الجانبين – فعلاقات الخرطوموجوبا تدار بالتهديدات وتتأثر بالإشاعات وتتغذى على المخاوف المسبقة وهذا يرجح استمرار الخلافات لفترات أطول. لم تصل المفاوضات الى غاياتها بعد – والطريق لا يزال في أوله "الغريق قدام". أبيي والحدود وغيرهما – فلماذا استنزاف الطاقات في المتر الأول من مضمار القضايا العالقة الطويل – المنطق والمصالح والسياسة والاقتصاد تقول بضرورة التأسيس لقاعدة صلبة تبنى عليها عملية التفاوض دون اللجوء لوسطاء مهما كانوا. وهذه ليست بالمهمة المستحيلة مع الإقرار بصعوبتها في ظل المعطيات الماثلة شمالا وجنوبا. مثل الاتفاق الإطاري قفزة نوعية في سبيل التغلب على الصعاب واستعادة النذر اليسير من الثقة المفقودة بين الجانبين – لكن الاتفاق تعرض لهجوم مغرض – بالغ معارضوه في الحشد ضده والتشهير به وبوفد التفاوض الحكومي – هنا لا بد وقفة جادة للخروج بموقف موحد وإن عز ذلك لا بد من حفظ وجه الموقف الرسمي وتحصينه ضد حرب الأجنحة والجماعات داخل الحزب الحاكم. ما يعنينا بحق – تجنب الحرب مع الجنوب واستغلال العلاقة معه لجني فوائد اقتصادية واجتماعية نحن في أمس الحاجة إليها – خلافات المؤتمر الوطني وتشدق بعض منتسبيه لا تهمنا في شيء. في المقابل لا بد من خطوات مماثلة في جوبا – فالاستمرار في ادعاء دور الضحية لم يعد مجديا – على الجنوبيين التصرف كرجالات دولة مستقلة لها مصالحها ومشاكلها بعيدا عن الندب والتكتيكات قصيرة المدى والمراهنة على التدخل في مشاكل الشمال. فقد آن الأوان لتستبدل الخرطوموجوبا العصى والجزرات بالتوافق والتعاون والمصالح المشتركة – فالحرب والتهديد بها لا تخدم أياً منهما.