استمعت لباقان أموم وهو يتحدث قبل يومين في حفل العشاء الذي أقامه السيد جمال الوالي رئيس مجلس إدارة هذه الصحيفة بمنزله العامر بحي الصفا، بحضور وفد حكومة الجنوب وعدد مقدر من قيادات ووزراء الحكومة السودانية. كان اللقاء على أنغام الأستاذ الرائع عبد الكريم الكابلي. لم أندهش للطريقة الودودة والمهذبة التي تحدث بها باقان، وهو يدعو لفتح صفحة جديدة وبداية من أول السطر، ويدعم ذلك بالقول: (بسياسات العداء وصلنا الى قاع البئر وليس أمامنا سوى الصعود الى أعلى)!! تحركت أنوف البعض لاكتشاف ما وراء الكلمات. أمسك صاحب الدعوة السيد/ جمال الوالي بالمايكرفون ليسأل باقان: (بصراحة الزيارة دي وراها شنو؟). أكاد أتفهم مصدر الشك والريبة. باقان متطرف في التعبيرعن مواقفه، عندما يصل لقناعة ما أو يقتنع بفكرة محددة ، يختار أكثر العبارات مقدرة على توصيل فكرته دون لبس أو غبش ودون أن يتيح لنفسه فرصة للتراجع أو المراجعة والاستدراك. في العداء يستخدم كل الأسلحة التعبيرية التي تؤذي الخصم ولكنها كثيراً ما تصيب أهداف قريبة أو مجاورة للهدف، وعندما يصالح ينتقل الى النقيض بسرعة الضوء، تتقدمه الزهور والابتسامات!! عندما عين وزير مجلس الوزراء شهدت شهوره الأولى بناء علاقات حميمة مع عدد من قيادات الحكومة والحزب الحاكم، كان يتناول إفطار الجمعة (القراصة بالتقلية) بمنزل وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، وتدخل وقتها بصورة إيجابية جداً مع مولانا أحمد هارون في حل اشتباكات الميرم!! قناعتي أن باقان ظل متنازعاً بين مصالح موضوعية تفرض عليه خلق علاقة جيدة بالحزب الحاكم في الشمال وذكريات وظنون سيئة تجعله كل ما قطع خطوة للأمام عاد سريعاً لقلعة قناعاته القديمة!! ليس المهم أن تحب الرجل أو تكرهه ولكن عليك في الاثنين إدراك أنه يمسك بأهم الخيوط داخل الجنوب. ولأن باقان صنع لنفسه صورة ذهنية سيئة في الشمال كرمز للصراع والحرب يصعب تسويقه كرسول سلام! لكل ذلك كان من الصعوبة إيجاد تفسير إيجابي لانتقاله من منلوج الكراهية الى الرقص على أنغام الكابلي بحي الصفا والتبشير بصفحة جديدة وفق نظرية قاع البئر! كثيرون ظنوا سوءاً في هذا التحول، وقالوا إن دعوة باقان لرئيس الجمهورية عمر البشير لزيارة جوبا وراءها مؤامرة تعد على نار هادئة بأيدي طباخين مهرة وهي ستوضع على مائدة الجنائية!! قناعتي أن التحول الذي طرأ على موقف حكومة الجنوب وعلى خطاب باقان مصدره شعور بحالة ضعف أكثر من مقدرة أو رغبة في نسج مؤامرة توقع بالبشير. حكومة الجنوب لا تستطيع أن تدخل في مغامرة بحجم اعتقال رئيس دولة، فهي تدرك جيداً مآلات ذلك على علاقتها بالشمال وما يمكن أن يترتب على الخطوة من ردود أفعال يصعب التنبؤ بها والتحسب لها. والقوى الدولية لن تجرؤ على المشاركة في مثل هذه العملية لحسابات وتقديرات عديدة. وكان بمقدورها اختيار رحلات أخرى للرئيس البشير أبعد من جوبا وذات تكلفة سياسية أقل ولكنها لم تفعل لأنها لا ترغب!! حان الوقت لكي نفهم. أدلة وشواهد كثيرة تشير الى أن الغرض من الجنائية ليس توقيف الرئيس البشير ولكن الغرض الحد من حركته ورفع تكلفة بقائه في السلطة!! عدم ذهاب الرئيس البشير لجوبا يحقق الغرض الذي من أجله جاءت الجنائية، فالذين يدعون لإلغاء الزيارة إذا تحقق لهم ذلك سيحظون بصفقة داوية من المعاشي أوكامبو وبابتسامة انتصار عريضة من خليفته الغامبية فاتو بنسودا!!