وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. مواطن سوداني يعبر عن فرحته بالذهاب للعمل في الزراعة مع زوجته وأطفاله بالغناء على أنغام إحدى الأغنيات التراثية    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    صحة الخرطوم تبحث خطة لإعادة إعمار المرافق الصحية بالتعاون مع الهيئة الشبابية    كمين في جنوب السودان    دبابيس ودالشريف    إتحاد الكرة يكمل التحضيرات لمهرجان ختام الموسم الرياضي بالقضارف    كوليبَالِي.. "شَدولو وركب"!!    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    ارتفاع احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي بأكثر من ملياري دولار في يوليو    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وردي شجون خاصة


مدخل
هذه الوقفات ليست توثيقا أو محاولة توثيق لمسيرة الراحل الأستاذ محمد وردي، إنما هي فقط لحظات عايشتها ارتبطت به بطريقة ما.
فلاش باك
في أوائل عام 1957م احتفلت عائلتنا بزواج أحد أبنائها أحمد مهدي ضيف الله، خال المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الدهب على إحدى بناتها عائدة الزبير صالح، شقيقة الاقتصادي صلاح الزبير صالح فوجئ الحضور بفنان جديد شاب نحيل طويل القوام أتى به محجوب بابكر أرو وزيادة ساتي حمد غنى وشدا بكل ما لديه ويحفظ من أغنيات لمدة خمسة أيام كاملة مكثها هذا الفنان الناشئ في كنف وضيافة هذه العائلة العريقة بحي ود أرو العريق .... بعد عدة أشهر عرف الجميع هذا الفنان الناشئ الواعد المتوعد محمد وردي بعد أن صدح من خلال هنا ام درمان ... و
التاريخ يعيد نفسه، فها هو مرة أخرى يعود لنفس البيت بعد حوالي سبعة عشر عاماً ولكن هذه المرة بعد أن عرفه الجميع وصار ملهم الكل، ففي شهر يوليو من عام 1973م وبعد خروجه مباشرة من السجن بعد أحداث يوليو 1971م، أحيا حفل زواج عمتي صافيناز الصديق عبد الرحمن من ابن خالتها صالح محمد حسن سوار الدهب ... في هذا الحفل اكتظ الفناء الواسع لذلك المنزل بالحضور من المدعوين وغير المدعوين العطشى لفنه بعد طول غياب، وتسلق الكثيرون أسقف البيت والبيوت المجاورة .... كانت لحظة رائعة عندما نزل من المسرح لتحية والدتي العريس والعروس الشقيقتين السريرة وبنت المنا مهدي ضيف الله عندما رقصتا بكل الوقار والشموخ رقصة الرقبة التقليدية فرحاً بابنيهما ....
يا ناسينا والإسكندرية
في أواخر شهر يناير من عام 1985م ونحن طلبة بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، أقامت الجمعية الطبية الصيدلية للطلاب السودانيين بالإسكندرية حفلا لخريجي ذلك العام بمسرح كازينو الشاطبي ...
أحيا هذا الحفل الراحل الأستاذ محمد وردي ومعه الأستاذ يوسف الموصلي (الذي قام بقيادة الأوركسترا)، أقيم هذا الحفل قبل الانتفاضة بأسابيع قليلة وهو من ضمن حفلاته التي أقامها خارج السودان إبان خروجه الأول (1983 1985) والذي كانت من أشهر حفلاته حفلتا عدن والكويت ....
كانت الأجواء وقتها مشحونة والأحداث في السودان متلاحقة ... محاكم الطوارئ، إعدام محمود محمد طه، إيقاف العربات بالليل وتفتيشها .... إلخ الممارسات التي كانت سائدة وقتها ... غنى وردي في هذا الحفل كما لم يغن من قبل، كيف لا والحضور جله من الطلبة بالإضافة إلى بعض المقيمين من السودانيين والذين ولدوا ونشأوا بالإسكندرية كنا نطلق عليهم لقب جالية وللتخفيف جلاجل استهل الحفل بالرائعة الخالدة (اليوم نرفع راية استقلالنا) .... بدأت الفرقة الموسيقية في عزف أغنية (يا ناسينا)، في أثناء عزف الموسيقى تحدث وردي للحضور وقال ( الأغنية دي أكبر منكم كلكم، إتألفت وإتلحنت هنا في الأسكندرية سنة 57) وهي ضمن رحلته مع إسماعيل حسن لمصر والتي ألف فيها إسماعيل حسن بين الشلال ووادي حلفا "أغنية لو بهمسة" ....
كان لوردي ميزة غريبة جداً (لم ألحظها عند أي فنان آخر) وهي شخصيته وسيطرته على خشبة المسرح بشكل يجعل المشاهد لا يفارق بصره خشبة المسرح على الإطلاق وذلك بحضوره الأخاذ وطوله الممشوق وبحركة يديه وجعل الحضور مشاركاً معه في الأداء وسيطرته على الفرقة الموسيقية ويتم كل ذلك في تناغم مبهر رائع .... حدثي والدي رحمه الله بأن المرحوم الحاج محمد أحمد سرور كان يتصف بمثل هذه الشخصية على المسرح وكان دائم الحركة على خشبة المسرح .
بين أحد فواصل هذا الحفل وفي الصفوف الخلفية وقع شجار بين بعض أفراد الجالية (جلاجل) ووقتها كان وردي يجلس في الصفوف الأمامية، فما كان منه إلا أن اعتلى خشبة المسرح وتناول المايكروفون وقال للجميع " مالكم؟ في إيه؟ الناس لمن تكون في حضرة الوطن بتتسامى عن أي شيء " ووضع المايكروفون ونزل، التهبت القاعة بالتصفيق وانتهت المشكلة كأن شيئاً لم يكن ....
عام 1976 والنيولوك
بدأ ربيع عام 1976م كئيباً ففيه (ككل الأعوام السابقة) إمتحانات جميع المراحل التعليمية بالسودان، لكن في هذا العام فقد كنت ضمن الجالسين لامتحانات الشهادة الثانوية العامة للدخول للثانوي العالي، وفي أثناء الامتحانات حدث الحدث الرياضي الجلل والذي أودى بالرياضة السودانية إلى دركٍ سحيق لم تخرج منه إلى الآن، وهو حل الأندية الرياضية وإعلان الرياضة الجماهيرية كانت الصدمة بالغة على الشعب السوداني الذي فجأةً وبين عشية وضحاها وجد نفسه دون الهلال والمريخ والموردة والتحرير، تلك الصروح التي شكلت وجدانه بجانب حقيبة الفن ورموزه الوطنية والفنية والثقافية ...
في شمال الوادي كان ربيع 1976م مختلفاً، ففي مساء ربيعي حالم وفي ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة تجمعت حشود بشرية هائلة ضاقت بها مقاعد مسرح نادي الترسانة بالقاهرة حيث وقف العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ليفاجئ الحضور والمتابعين عبر شاشة التلفزيون وأثير الإذاعة بعمل استثنائي جمع ثلاث قمم قل ما تلتقي في عمل واحد نزار قباني، محمد الموجي وعبدالحليم حافظ والفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن فكانت قارئة الفنجان
جلست والخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
يا ولدي
لعلنا استمعنا إليها وتلمسنا غرابتها في صيف ذلك العام الذي حمل لي في تلك الأثناء خبراً مفرحاً وهو نجاحي في اجتياز امتحانات الشهادة الثانوية العامة وتأهلي لدخول مدرسة الأهلية الثانوية العليا بأم درمان ... انتهى هذا الصيف بنهاية مأسوية دموية بأحداث 2 يوليو 1976م والتي عرفت باسم أحداث المرتزقة ...
كان موعد دخولي للأهلية صباح السبت 21 أغسطس 1976م ولكن فجر ذلك اليوم حمل فاجعة كبرى لنا في العائلة وهي وفاة ابن خالتي الأستاذ الأديب أبوبكر خالد مضوي. وتشاء الصدف الغريبة أن ينزل له مقال في الملحق الثقافي لجريدة الصحافة الصادرة صباح ذلك اليوم مقال يؤبن فيه صديق عمره الأديب الراحل عبدالله حامد الأمين والذي توفي قبل حوالي شهر من ذلك اليوم ...استهل المقال بعبارة " الناس في بلادنا لا يعرفون قدر الأديب إلا بعد رحيله أو اختفائه بطريقةٍ ما" .... يا سبحان الله يا لها من عبارة ! حدث أن كان كثير من الناس يطالعون هذا المقال وفي نفس اللحظة يسمعون نعيه في آخر نشرة السادسة والنصف صبيحة ذلك اليوم ... بعد مراسم الدفن توجهت تلقاء ذلك الصرح العتيد المدرسة الأهلية الثانوية بأم درمان للتعرف على ذلك العالم الجديد والذي كنا نسمع عنه الكثير والمثير ... الأهلية وأحداث شعبان عام 1973م وطلبتها في ذلك الوقت حسين خوجلي، الهادي الشيخ و آخرون ...
في تلك الأيام كان صدى وتأثير قارئة الفنجان هو سيد الساحة، وأذكر أن الأخ والصديق أبوعاقلة الفاضل أبوعاقلة (شقيق الفنان نجم الدين الفاضل) كان معجباً جداً باللازمة الموسيقية التي تعقب كلمة جلست وكان يرددها باستمرار .... شخصياً كنت معجباً بأداء عبد الحليم في المقطع الذي يقول : بحياتك يا ولدي إمرأة سبحان المعبود ... كنا نتناقش ونتحاور في تلك الرائعة وفي موسيقاها وتركيبتها الغريبة العجيبة، لكن أتى شهر سبتمبر ليحمل لنا ما هو أعجب وأغرب ...
في ليلة خريفية رائعة أقام المسرح القومي بأم درمان حفلاً ساهراً أحياه عدد من الفنانين، كان هذا الحفل إستثنائياً في كل شئ، شارك فيه كبار الفنانين وكان منقولاً إذاعياً وتلفزيونياً . كان ممن شاركوا فيه الفنان النور الجيلاني وظهر فيه بإسلوب جديد للغناء (أسلوبه الحالي) وقدم فيه لأول مرة أغنيتي (كدراوية) و(يا إنت) حيث لاقتا رواجاً كبيراً فيما بعد ...
مسك ختام ذلك الحفل كان فريداً، فتحت ستارة المسرح العريق لتكشف عن فرقة موسيقية كبيرة غير تلك التي كانت تعزف مع الفنانين الآخرين، فرقة تتكون من قرابة ال 13 فردا.
صلاح خليل جيتار
فيصل السيد إمام بيزجيتار
المرحوم جعفر حرقل إيقاع
المرحوم الزبير محمد الحسن طبلة
المرحوم عبدالعزيز حسن محجوب (عصفور) أوكورديون
محمد مصطفى ساكسفون
صلاح دهب فلوت
دفع الله ترومبيت
المرحوم عبدالرحمن عبدالله (أبونظارة) كمنجة
أحمد بريس كمنجة
عوض رحمة كمنجة
نورالدين مسمار كمنجة
عبدالله عربي كمنجة
أطل وردي بقوامه الممشوق بشكل جديد لم يكن مألوفا، شعر كثيف جداً معتن به لأبعد حد (خنفس بتعبير ذلك الوقت) وبهندام في غاية الأناقة، حيا الحضور ومن ثم دار نحو الفرقة الموسيقية وأخذ في قيادتها لتبدأ في عزف موسيقى غير مألوفة تركيبة غريبة مقدمة موسيقية استمرت حوالي خمس دقائق، حوار بين آلة الجيتار وباقي الأوركسترا مع تداخلات لآلة الفلوت تارة وحوار آخر بين الأوركسترا وآلة الساكسفون ليمهد الجيتار بأكورد في غاية الروعة والإتقان لدخول وردي في الغناء ليصدح وهو ممسك بالمايكروفون في يده في حالة غير معهودة تحدث لأول مرة
يا جميلة ومستحيلة
إنتي دايماً ذي سحابة
الريح تعجل برحيلا
عيوني في الدمعات وحيلة
أسمحيلا
أسمحيلا تشوف عيونك
أسمحيلا
أنا لا الصبر قادر علي
ولا عندي حيلة
بدأ المقطع الثاني بسؤال ملهوف جداً من الأوركسترا بكاملها ليرد عليها الساكسفون بكل هدوء وحنية ليدخل الجيتار بتساؤل أكثر لهفة وتأكيد من باقي الأوركسترا كأن لسان حالها يقول للجيتار وهو كذلك، ليحسم الأمر وردي في النهاية وهو يرد للجميع
حدثت عنِك نجمة جارة
وزرعت اسمك حارة حارة
في مناديل العذارى
في مشاوير الحيارى
في لحا الأشجار
كتبتو نحتو في صم الحجارة
بحت للشمس البتقدل في مدارها
عيوني في الدمعات وحيلة
أسمحيلا
أسمحيلا تشوف عيونك
أسمحيلا
أنا لا الصبر قادر علي
ولا عندي حيلة
المقطع الثالث كان أعجوبة، حوار في منتهى الرقة والحنية والحزاينية بين الفلوت وباقي الأوركسترا سرعان ما يتحول إلى سؤال مشروع من الجيتار لتجيب عليه الأوركسترا بإجابات مقتضبة ليتداخل وردي في أثناء هذا الحوار بين الجيتار والأوركسترا منادياً بإلحاح مراسي الشوق لكي تأتي
يا مراسي الشوق تعالي
تعالي تعالي تعالي
لا الليالي تمر بدونك
هي الليالي
من ضواحي الدنيا
جيت وعلّي رحالي
لمداين في عيونك يا محالي
ريحيني أستري حالي
عيوني في الدمعات وحيلة
أسمحيلا
أسمحيلا تشوف عيونك
أسمحيلا
أنا لا الصبر قادر علي
ولا عندي حيلة
المقطع الرابع كان مفاجئاً تسيده الجيتار على إيقاع تمتم مع تداخلات من الأوركسترا في منتهى الروعة والاحترافية ليتحول إلى مناجاة من الأوركسترا على إيقاع الفالس العالمي .... يا لك من عبقري كيف مزجت بين إيقاع سوداني محلي (التمتم) مع إيقاع عالمي (الفالس) في نفس الحوار؟ كيف لا وقد كان هذا المقطع هو الحاسم وفيه البوح الخالد
إنتي منك لا بداية
عرفت لسة ولا نهاية
مرة أسرح ومرة أفرح
ومرة تغلبني القراية
ولما أكتبلك وداعاً
قلبي ينزف في الدواية
يا صبية الريح ورايا
خلي من حضنك ضرايا
أثارت (جميلة ومستحيلة) ضجة وحراكا ثقافيا كبيرا جداً وعلى الفور انعقدت المقارنات بينها وبين صنوتها من شمال الوادي (قارئة الفنجان) ...
تحصل الأخ والصديق عبد الله قاسم علي بخيت على تسجيل لهذه الحفلة وكنا دائمي السماع لهذه الحفلة ول(جميلة ومستحيلة) على وجه الخصوص حتى حفظناها بكل لازماتها الموسيقية عن ظهر قلب ...
غنى وردي في هذا الحفل بعد (جميلة ومستحيلة) ثلاث أغنيات كانت على التوالي (يلا وتعال يلا)، (الحنينة السكرة) وهي أيضاً تقدم لأول مرة وأخيراً (نور العين) بشكلها الجديد (الحالي) ...
تلك كانت أسطورة عام 1976م (جميلة ومستحيلة) والتي أطلق اسمها على أكبر صرح تعليمي في السودان (جامعة الخرطوم) ... وعلى ذات النسق سميت جامعة القاهرة (الفرع) ب(الحنينة السكرة) ...
تصوير التلفزيون في (جميلة ومستحيلة) كان خرافياً، كانت هنالك كاميرا فوق خشبة المسرح حرة الحركة تتحرك تارة خلف الفرقة الموسيقية وتارة تأخذ كادراً مقرباً لوردي من إحدى الجانبين أو كليهما مما أعطى بعداً إخراجياً غير مسبوق ...
ألم أقل بأنه كان حفلاً استثنائياً
بكل تأكيد كانت (جميلة ومستحيلة) بداية مرحلة جديدة وشكلا آخر مختلفا في مسيرة الأستاذ الراحل وردي ....
رثاء عبد الحليم حافظ
في حفل أقيم على المسرح القومي بأم درمان ليلة 31/3/1977م وكان مشاركاً فيه الأستاذ وردي، وقبل تقديم وصلته بقليل وصل نبأ وفاة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في لندن، وعند صعوده لخشبة المسرح تناول المايكروفون ونعى للحضور العندليب الأسمر وطلب من الفرقة الموسيقية الوقوف دقيقة حداداً ... توقع الجميع بأن يفتتح وصلته ب(جميلة ومستحيلة) كعادته في تلك الأيام التي أعقبت تقديمه لها أول مرة، لكنه فاجأ الجميع بأغنية لم يتوقعها أحد، كانت البداية بأغنية الحقيبة
قسم بمحيك البدري
قسم بمحيك البدري
غرامك منه ضاق صدري
حبيبي بالعلي تدري
في تقديري كان وردي يرثي عبدالحليم حافظ بتلك الكلمات
ما بين وردي وبيليه
كنت في كثير من المناقشات التي تدور حول المقارنة بين العملاقين محمد وردي ومحمد الأمين أشبهما بالكرة البرازيلية والألمانية ... يتبع الأستاذ محمد الأمين أسلوبا ملتزما جداً فتجد نفس الموسيقى بنفس أداء العازفين سواء أكانت الحفلة جماهيرية كمسرح نادي الضباط أم في حفل زواج أم حتى تسجيلا داخل الاستديوهات مع أداء وجودة على أعلى مستوى وهو بالضبط ما يشبه التزام الكرة الألمانية ...
أما وردي فقد كان إذا غنى أي أغنية ففي كل مرة تجد لها أداءً جديداً وروحاً جديدة كأنها تغنى للمرة الأولى كما أنه يترك كثيرا من الحرية لأفراد الفرقة الموسيقية لإظهار مهاراتهم وإبداعاتهم الفنية الفردية داخل إطار اللحن الأساسي مما يطفى على موسيقاه حيوية ومتعة وأبلغ دليل على ذلك عندما قدم أغنية (الحنينة السكرة) لأول مرة ارتجل البارع صلاح دهب صولو بآلة الفلوت في بداية المقدمة الموسيقية وصار بعد ذلك أساس المقدمة الموسيقية لها، بالرغم من أن هذا الأسلوب يبدو سهلاً إلا إنه يتطلب تركيزا وانتباها على مستوى عال جداً وهذا هو أسلوب الكرة البرازيلية من زمن بيليه وجارنيشيا مروراً بسقراط وفالكاو وحتى كاكا ورونالدينيو.
حسن الخاتمة
حكت لي زوجتي بأن زميلتها في العمل (وهذه الزميلة من المتصوفة إحدى مريدي وحوار الشيخ دفع الله الصايم ديمة بأمبدة) جاءها أحد الأشخاص يوم تشييع جثمان الفقيد العزيز (الأحد 19/2/2012م) وقال لها لا يمكن أن يكون تشييع مغنٍّ بهذا الشكل والكم الهائل من الناس في حين أن تشييع فلان (سماه باسمه وهو في تقديره من الصالحين) لم يحظ بأي حشود أو جموع .... فكان رد هذه الزميلة المتصوفة ويا للعجب " إنت ما ح تقدر تحكم ولا تعرف مكانة أيٍّ من البشر عند الله سبحانه وتعالى .... وأحكي ليك حكاية، مرة ونحنا في مأمورية في الشمالية كنا نمر على قرى عديدة، وفي كل قرية كنت أسأل عن وجود أي مسجد، وفي إحداها وجدنا مسجدا وقيل لنا إن من شيد هذا المسجد هو وردي "
ولم يكن إلا لقاءً


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.