أتذكر جيداً في العام 1968 المحاضرة القيمة التي قدمها المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي في القاعة 102 بكلية الآداب جامعة الخرطوم والتي تحدث فيها حديث العالم عن نظرياته حول ( شروط النهضة) والأخرى عن (القابلية للاستعمار) لدى شعوب العالم الثالث التي وقعت تحت نير القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر. فقد كانت معظم الشعوب الإفريقية والعربية وكثير من دول العالم ترزح تحت رماد التخلف والفقر والجهل والأمراض الفتاكة دون علاج على رأسها الملاريا وتتعارك مجتمعاتها بالأسلحة البدائية لأسباب واهية تقودها العصبية القبلية الضيقة وفجأة وجدت نفسها تواجه عدواً شرساً طامعاً في ثرواتها الهائلة فلم تستطع أسلحتها البدائية أن تتغلب على الأسلحة النارية واستفاد الغازي من حبوب الكينا التي قاوم بها الملاريا المنتشرة حينها في إفريقيا ومن وسائل النقل الحديثة براً ونهراً وبحراً فوقعت تلك الشعوب في قبضة الدول الاستعمارية بكل سهولة فنهبت ثرواتها وأرسلتها إلى أوروبا التي زعم قادتها أنهم جاءوا برسالة ومسؤولية الرجل الأبيض تجاه الآخرين WHITE MAN BURDEN !! وتدور الأيام والسنوات والعقود وبدلاً من أن تستفيد شعوب العالم الثالث من دروس الماضي خاصة الدول الإفريقية وشعوبها بعد أن نالت استقلالها ورحل عنها الاستعمار قبل نصف قرن وتخرجت النخب من المدارس والجامعات والمعاهد المدنية والعسكرية هاهي حكوماتها وأنظمتها تمارس نفس بل أسوأ ما مارسته شعوبها في القرن التاسع عشر الذي جعلت منها دولاً وشعوباً لديها قابلية لاستعمار جديد أكثر شراسة وهيمنة وذكاءً".. وإلا حدثوني كيف جاز لدولة وليدة مثل دولة جنوب السودان نالت مرادها بالانفصال وبدلاً من أن تعمل بكل جد واجتهاد في تنمية مواردها وتعليم أبنائها ورعايتهم صحياً وتحسين علاقتها بجيرانها خاصة الشمال والعمل على استقرار وطنها الجديد وتتجنب الحروب القبلية فها هى تمارس نفس ما مارسته شعوب القرون السابقة ومن المؤكد سيكون مصيرها (القابلية للتدخل الأجنبي الكثيف) أي الاستعمار الجديد ويستغلها من جديد لتحقيق مآربه في هذه القارة البكر التي لديها موارد هائلة وموقع جغرافي مميز. إن شروط النهضة التي تحدث عنها مالك بن نبي لن تتحقق إلا إذا استغلت هذه الشعوب عوامل نهضتها وهي كما قال في محاضرته ( الإنسان + الموارد+ الوقت) ولكن للأسف أصبح الإنسان الآن مقيداً ومكبلاً بسلاسل من عناصر التخلف والجهل والمرض وسوء الإدارة والحكم الفاشل والمغامرات ولأن الموارد تذهب في إثارة الحروب والنعرات والتحكم في الناس دون رضاهم فيضيع الوقت هدراً بدلاً عن استغلاله على قدم الجد وساق الاجتهاد. إن حكاماً أمثال حكام الجنوب الآن وفي أي مكان هم الذين يضيعون شعوبهم فيما لا يفيدها بل يدفعونها دفعا نحو الغوغائية والتعصب الفج وإهدار الموارد وعدم الاستقرار يسدون الأفق على الأجيال الجديدة المتطلعة إلى التقدم والأزدهار.. أمثال هؤلاء ليس مكانهم القيادة.. إنهم يمارسون الاستدمار.. وحولوا استقلال أوطانهم إلى (استغلال) مواطنيهم، حولوهم إلى مجرد هتيفة في سجون كبيرة اسمها (الدول) بحدودها الجغرافية الحالية.