طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، يهيم في طرقات الخرطوم وهو (يكشكش) بتلك الآلة المحصورة على عاملي مسح الاحذية أو (الاورنيش)، عيناه تحملان اكثر من سؤال، وتحمل كذلك العديد من الاجابات المبتورة، حذاؤه الذى يرتديه كان (مغبراً) ومصاباً بعدة جروح جانبية، بالرغم من انه (يخيط) احذية الناس، و(يلمعها) كذلك، ولكن يبدو انه يؤمن بعبارة (باب النجار مخلع)..أو فلنقل انه يؤمن بأنه (لابد ان يكون باب النجار مخلع)..!! وبين الاولى والثانية..فرق كبير..ومتسع للتأمل. مر الطفل بجانبنا، وكان بصحبتي عدد من الزملاء الاعزاء، لنقوم بمناداته وأعطائه احذيتنا ليقوم ب(ورنشتها)، فحملها وعلى وجهه ابتسامة لم تفسدها الظروف، جلس بجانبنا وظل يعمل بإخلاص غريب، دفع بأحد الزملاء لمطالبته بالعمل بسرعة، ولكنه التفت اليه في ابتسامة ودودة، قبل ان يواصل في عمله، و...بنفس الدقة. نصف ساعة كاملة مرت على ذلك الطفل وهو يعمل، وبعد ان فرغ تماماً، نهض من مكانه وقام بتسليمنا احذيتنا كما لو أنها (صنعت للتو)، ولعل ذلك دفع بأحد الزملاء لمنحه مبلغ اضافي مقابل جهده ذاك وتعبه الشديد واخلاصه في العمل برغم صغر سنه، ولكن لدهشتنا جميعاً رفض أن ينال مايزيد عن المبلغ الحقيقي وهو ما لايتجاوز (جنيهين)، وبرغم اصرارنا عليه الا انه رفض تماماً اية محاولة ليأخذ (قرش) اضافي، وعندما اخبره صديقي انه لايمتلك (فكة)..قام بأخذ المبلغ وركض ليقوم بفكه من محل يجاورنا، وانتهز صديقي في تلك اللحظة غياب الطفل، فقام بدس مبلغ مالي داخل كيس الاورنيش الخاص به، ودقائق مرت حتى عاد ذلك الطفل، وقام بإعادة باقي المبلغ لصديقي، وودعنا بإبتسامة (عتاب) قبل ان يتلاشى من امامنا، ويتركنا في ذهول تام..وحيرة ربما لم ولن تتملكنا قريباً. جدعة: ماأصعب ان نعثر على نموذج لمثل ذلك الطفل هذه الايام، ومااصعب ان نعثر على القناعة في زمان كانت (الانانية) هي ابرز سماته، وما اصعب ان نتصالح مع انفسنا ونرضى بالقليل، وان نترك ماللناس للناس..ومااقسى ان نتعلم الرسالة تلك من طفل صغير..بينما الكبار غارقون في الملذات، وضمائرهم غائبة عن الوجود. شربكة اخيرة: عزيزي صبي الاورنيش..اعذرنا ان حاولنا ان نكسر (قناعاتك)..اعذرنا ان حاولنا ان نشوه دواخلك (النظيفة) من غير قصد، واعذرنا إن لم نتعلم منك الدرس...وواصلنا في مسلسل (الانانية والجشع) حتى حلقته الاخيرة..!!