«ام بارح كنت قاعد فوق الحجر داك قدام الشارع» قالها ردا لاستفسار رفيقه وهو يشير باصبعه اليه بعد ان انفرج فمه عن «نلمات» بقيت بها اسنان قليلة تقاوم من اجل البقاء في محاولة لرسم بسمة بصعوبة على شفتيه يستقبل بها زميله حسن.. هكذا عرفت اسمه فيما بعد، وانا اراقب قطعة من مسرحية الحياة تجري امامي، ومساح الاورنيش مشغول بتلميع حذائي كأنه كمبارس المسرح!!!. اخذ مقعده في كنبة حديد ذهبت عنها البوهية كذهاب الشباب عنهم اثر حفر الزمان الذي رسم صورتهما وحفر اخاديد عميقة على وجهيهما فلا تري عيونهم الا بصعوبة، فقد اختبت داخل الجفون المهدلة. اخرج من قفطانه الممزق قطعة معدنية من فئة الخمسين قرشاً وناولها لحسن الذي تب واقفا في رشاقة تختلط بالشيب والشيخوخة في كل شيء، وسأل بعد استقرت في راحة يده. اثنين سجارة؟ ايوه. ناوله لفافتين امسك باحدهما وارجع الاخرى والباقي الى جيب القفطان في فمه، وضم الاخرى بين اصبعيه المعكوفتين في غير ارتجاف، وناوله حسن سجارته المشتعلة التي لم يبق منها الا القعر فالصقهما مع بعضهما مثل التصاقه هو وصديقه حسن «فردة»، وجر نفسا عميقا حتي اشتعلت السجارة وارجع الاخرى لزميله حسن، حيث لا تكتمل الصورة الا هكذا. ارجع ظهره للوراء وقال وقد خرجت الكلمات من فمه وكأنها تتخذ من الدخان مشرعاً تبحر فيه: «نادني راجل راكب مريسدس وقال لي يا حاج تعال!!! طلع من جيبه خمسة جنيه.... خمسة جنيه تتصور!!!!!» نظر اليه حسن والدهشة تعقد لسانه وردد معه «خمسة جنية كاملة» الله يكتر من امثاله، الله يكتر من امثاله، الله يكتر من امثاله، الله يكتر من امثاله الدنيا لسع بخير، ربنا يخليه ويديه البركة. اول مرة ارى مكنيكية في المعاش !!!!!!! سألت نفسي يا تري ماذا يدور في ذهنيهما؟ بعد صمت طويل الكل يتابع حلقات الدخان التي ترسم له اطيافا في اشكال عدة.. تغمرهم السعادة كأنه فجاة هرول بهم الزمان القهقري الي زمن الطفولة فاصبحا طفلين يلعبان صحابة ولعابة!!! خمسة جنيهات تدخل هذا الحجم من السعادة!!! هممت أن اخرج من جيبي انا ايضا خمسة جنيهات لكل واحد، لكني خشيت وخشيت أكمل صبي الورنيش مسح الجزمة وناولني اليها، والتفت لآخذها فجاء شاب في كامل اناقته وخلع نعله ومد رجله ايضا، ولكني غادرت قبل نهاية المسرحية الممتعة. هذه المسرحية التي تجري على خشبة الحياة تتكرر كل يوم في السودان بيننا، فقط كل منا له دور يمثله.. هذا يمثل دور التجار وهذا دور الضابط وهذا دور الشحاد، ولكن النتيجة واحدة.. هل قمت بواجبك اتجاه دورك باقتدار ؟؟حتى لو كنت شحاذا مثل حسن وصحبه او مثل الشاب الذي يطلب مزيدا من التأنق، او دوري انا الذي اطلب خدمة الورنيش؟. صاحب المرسيدس الذي دفع الخمسة جنيهات هذا دوره ان يدفع حتى وان لم يلزمه القانون بذلك، لكن دوره يلزمه بذلك. اردت بهذه القصة ان اعرض لك ايها القارئ قضية الواجب والحق، فكل منا مطلوب منه اي يسأل نفسه هل قام بواجبه بحكم دوره في هذه المسرحية ؟؟ ام انه خرج من النص المنصوص له؟ ماذا يعني الخروج عن النص؟ يعني العصيان؟ التمرد؟ ليس على سلطان الدنيا بل سلطان الآخرة. لذلك لا بد من عقاب لهذا الخارج من دوره المتطلع للعب دور غيره؟ كيف نكتشف دورنا ؟ وما هي علاقة ادوارنا بالطموح؟؟ العقاب لهذا الخارج محتوم منجم حسب طبيعة الخروج وحجم الخروج؟ وانا متأكد من ذلك؟ فكر عزيزي القارئ وتأمل في نفسك وفي خارج نفسك؟ في داخل السودان وخارج السودان؟ ماذا تجد؟ اعطيك «بخرة» اقرأ المؤشرات التي تحيط بك فتقيس بها مدى اجادتك لدورك؟ انظر الى النمل، الى الطيور وهي تغرد، انظر الى قوانين الطبيعة، انظر الى اقدار الناس من حولك؟؟ ان ثورات الشعوب لها مؤشرات تقرأ؟ ديناميكية المجتمع وحراكه لها مؤشرات تقرأ ايضاً، هي رقيقة مثل الشعر لا تبصرها العين المجردة ولكن تبصرها البصيرة المجردة. عندما حرق الشاب التونسي نفسه وثار شعب تونس وانخلع الرئيس التونسي وانخلع، حاولت بقية الشعوب العربية تكرار الدور حتى في المغرب العربي، ولكن لم يتكرر الدور لا في المغرب العربي وبغير المغرب العربي، لأن الضوء القدري لا يمكن ان يسقط في مكان واحد مرتين بالفيزياء وبغير قواعدها، اذا كانت الاجابة أن الشعوب تتعلم من بعضها البعض، كذلك نتوقع ان يتعلم الحكام من بعضهم البعض. ثورة أكتوبر دوافعها ورجالها وظروفها وشعبها، لم تكن هي دوافع وظروف ورجال وشعب ثورة رجب، وكل الانتفاضات الشعبية والتغيرات السياسية لم تكرر نفسها، بل تأتي دونما يتصورها احد؟؟ لانها ادوار مرسومة ليست في رحم الغيب، ولكن في رحم مسرح الحياة. لقد شاخت القيادات السياسية مثل ما شاخ حسن وصحبه، ولكن لما ادى صاحب المرسيدس دوره بخمسة جنيهات، سرت موجة الشباب والسعادة في جسد صاحب حسن؟ نحتاج الى القدوة، المثال الحي؟ الرسول صلى الله عليه وسلم، سنته وطريقته في الحياة هي الاسلام الفعلي الواجب التطبيق لا النظري النص المقدس..!! زار احد الذين ترشحوا مستقلين في انتخابات الولاة السابقة مكتب صديقي، وبات يحدثه عن برنامجه الذي يقوم على ركوب طاقمه الدستوري للعربات جياد الهنداي!!!! وعدد أشياء كثيرة ومثيرة. عندما خرج صاحب الداعية السياسية تبعته عيون صديقي خارج المكتب، ووصفت عربته الشخصية بوصف لا يوصف.. قمة الفخامة. هل نستطيع أن نقول له «الله يكتر من امثالك»..؟!