تسريح الجواسيس وبداية تداعي حبات المسبحة العجلة من الشيطان وهي في شأن الحكم تنم عن عدم الصبر على المؤسسية وعدم الرشد السياسي. إننا لا نستطيع أن ننكر أن السودان لم يصبح بعد دولة مؤسسات وإن حسنت النوايا، فلا على مستوى أداء الدولة وأجهزتها السياسية والتنفيذية ولا على مستوى الأحزاب ولا على أي مستوى يضطلع بتنفيذ مهام عامة. وفي هذا السياق كثيراً ما تصدر القرارات السياسية المؤثرة دون دراسة لتداعيات آثارها المدمرة، فها نحن لم يطل ترقبنا لما كان متوقعاً إزاء معالجة قضية الجواسيس الدوليين الذين قبض عليهم في ساحة الحرب بين السودان ودولة جنوب السودان المعتدية، حتى صدر بحقهم عفو غادروا على إثره البلاد وكأنهم كانوا في نزهة ولا أحد يعلم كيف كان الإفراج ولماذا؟ إن القبض على أولئك الجواسيس في ساحة الحرب يمثل بينة أولية تبرر إحالتهم للمحاكمة وفق القانون الجنائي المطبق في البلاد ووفق القوانين العسكرية وبتأييد كامل من كل الأعراف الدولية. إن جرم أولئك الجواسيس يبرر الحكم عليهم بالإعدام لأنهم كانوا يعينون العدو وكانوا يعملون على الإضرار بالمركز الحربي للبلاد وهم لا يتمتعون بأي حماية قانونية حسب القانون الدولي ولا يتمتعون بالمركز القانوني لأسير الحرب وذلك بصريح نص المادة 46 من البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف لسنة 1949م. لا أحد يعلم بالإجراءات القانونية التي اتخذت في حقهم لأنها لم تعلن ولم تنشر وإن كان من حق العامة أن يقفوا على تلك الإجراءات لأن أولئك المجرمين ارتكبوا جنايتهم المنكرة في حق الشعب. لقد أعلن إطلاق سراحهم السيد وزير الدفاع ولا أرى وجهاً لذلك فهو ليس الناطق الرسمي باسم الدولة ولا باسم الجيش. معلوم أن للسيد الرئيس حق العفو الرئاسي، ولكن هذا العفو وفق القانون ويصدر العفو بموجب قرار مسبق سداً للذرائع وإعلاناً للكافة عن مبررات العفو، فهذا أدعى لأن يطمئن الناس لسلامة القرارات والأحكام سيما تلك التي تؤثر تأثيراً مباشراً على الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد، وقد قيل من قبل: "إن العدالة لا يجب أن تؤدى فحسب ولكن يجب أن يرى أنها تؤدى Justice must not only be done but it must be seen to be done" . جاء في تصريح السيد وزير الدفاع أن تسريح أولئك الجواسيس إكرام للسيد أمبيكي، وهذا يعني أنه طلب ذلك فاستجيب لطلبه وهكذا نحن نظل نعطي ولا نأخذ شيئاً، لقد جاء الرجل ليأخذ لا ليعطي. لقد عجلنا في إكرام أمبيكي لو أنه يستحق أن يكرم بإكرام أعدائنا ممثلين في الجواسيس الدوليين، ولنا أن نسأل ماذا قدم أمبيكي لنا حتى يكرم؟ وهل نحن نقدم بين يدي المفاوضات قرباناً نتألف به قلبه؟ لقد كان جديراً بنا أن نصبر حتى نرى ثمرة جهود الرجل ولجنته في تحقيق بعض ما نرجوه من لجنته رفيعة المستوى، ولكنه قبض المكافأة مقدماً فماذا نرجو منه لاحقاً؟ من المفترض أن يكون الرجل قد جاء إلى السودان لتهيئة المناخ للمفاوضات ويتوقع منه أن يبذل جهوده لإدراك تلك الغاية وإذا كان يأمل في الإكرام فلا أحسب أنه كان يتوقع مثل استجابتنا هذه، فإذا به يخرج منَّا بصيد ثمين ويحرز هدفاً لصالح حكومة جنوب السودان قبل بداية المباراة، فقد ربحت حكومة الجنوب عن طريق أمبيكي أولى الصفقات قبل أن تفتح السوق أبوابها. ماذا يرجو منا أمبيكي إذا أكرمناه وكافأناه قبل أن نرى نتائج نشاطه؟ لقد جربنا نشاط لجنته في ملف دارفور وحصدنا ثماره المرة في تقريره الذي لم يخرج عن أفكار وآراء ومقترحات المعارضة ونظرها لمسألة دارفور وهو الذي اقترح أسوأ وأخطر الاقتراحات التي تهدر سلامة الوطن والمواطنين. وأذكر أنني سألت أحد كبار المفاوضين وأبديت له عدم اطمئناني إلى أمبيكي هذا فرد عليَّ بأنه "صاحبهم" فما سألته عما إذا كان قد اطلع على تقرير أمبيكي عن دارفور وجدت أنه لم يطلع عليه فعجبت لتلك الصحبة التي ليس لها أي حيثيات ولا أسباب، وهي لا شك عندي أنها صحبة من طرف واحد فكم من مبعوث نال من السودان الرغائب ولم ينل منهم السودان سوى الغدر والمكر! لا شك عندي أن أمبيكي سوف يواصل تقديم طلباته ولن يكتفي الذين اصطحبهم معه وهو لا يكاد يصدق وأقطع بأنه لن يعطينا شيئاً، وإن أول ما سوف يطلبه منَّا هي طلبات إنسانية وذلك بأن نسمح بمرور البضائع إلى الجنوب ونعطل قانون رد العدوان لسنة 2012 وأتوقع أن نستجيب طمعاً في أن تسير الركبان بإنسانيتنا، ولن نجني غير الندامة. ياللهول! أما بشأن المفاوضات لو أنها بدأت فسوف يطلب أمبيكي قبل الفراغ من معالجة المسائل الأمنية أن نسمح بمرور النفط عبر بلادنا لظروف إنسانية وسوف يزعم أن ذلك سوف يعمل على تسهيل التفاوض لأن كل ما يهم المجتمع الدولي الآن هو أن تسري الروح في عروق دولة الجنوب بمرور النفط وهكذا تتداعى حبات المسبحة وسوف نتجرع كأسات الندم ولات حين مندم. أما وقد فرطنا في الجواسيس الذين كان يمكن أن نستغل قضيتهم ونكشف للعالم كله ما يحيق بنا من المكر الدولي وننتقل من حال الدفاع المهين إلى الهجوم الكريم، أما وقد فرطنا في ذلك، فيجب ألا نفرط في مفاتيح النصر التي آتانا إياها الله بفضله العظيم، وأرى أن العض بالنواجذ على قانون رد العدوان هو أحد مفاتيح النصر والآخر هو مفتاح أنبوب النفط إنه شريان حياتهم وليس شريان حياتنا. لا شك عندي أن قناعة السيد الرئيس هي أن نتمسك بمفاتيح النصر ولكن الوسواسين الخناسين لن يدعوا لهذه الأمة سبيلاً إلى النصر، فقد أدمنوا الهزيمة، وعافوا أسباب النصر، ولذلك يلوحون بانهيار الاقتصاد وقد غابت عنهم معاني التوكل على الله الرزاق. إن رسوم النفط التي نحلم بها لن نذوق لها طمعاً وإن القوى الدولية التي حرضت دولة الجنوب لقفل أنبوب النفط لن تسمح لهم بسداد مستحقاتنا ولو وقعوا الاتفاقيات وبذلوا الوعود، سوف نبادر بالوفاء بالتزاماتنا ونضخ أسباب الحياة في عروق دولتهم وإذا قدر أن ننال شيئاً من رسوم النفط فلن يكون ذلك إلا بعد جهود مرة وخصومات مقيتة ومطل يرعاه أهل المكر وتحكيم دولي وهلم جرا، وقد نجد شيئاً وقد لا نجد، أما هم فسوف يشترون السلاح ويشحذونه للهجوم علينا كرات أخرى. إن الأمل كبير في أن يلتزم السيد الرئيس بما أعلنه للشعب من الاعتصام بما يحقق الأمن القومي للبلاد، ومفتاح هذا هو أن ندير ظهرنا لرسوم النفط تماماً وما نطرحه بشأن النفط هو أن يبحثوا عن ممر غير أراضينا حتى يكون ذلك العبور ذريعة لخلاف لن ينقطع عمداً أو غير عمد، إن مرور نفطهم عبر بلادنا سوف يكون "مسمار جحا" الذي يربطنا بهؤلاء المجرمين، فلنخلع ذلك المسمار. يا سيادة الرئيس إن الأمل ألا تتراجع وأن تمضي قدماً مستصحباً وعد الله الخالد بأنه سوف يغنينا من فضله "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" يا سيادة الرئيس إننا لو فرطنا في مفاتيح النصر التي أعطاناها الله فلن نكون جديرين بقيادة الأمة واحتمال الأمانة. لقد حاربنا عشرين عاماً ونحن لا نملك نفطاً ولا ذهباً ولم نهزم قط، لقد هزمتنا المفاوضات وهي شر لا بد منه، فلنفاوض ولكن بعزة المؤمنين ويقين الصادقين ولنعلم أن النصر لن يكون بالتفاوض ونحن موعودون بالنصر، فلماذا لا نمضي إلى غاياتنا متوكلين على الله حق توكله؟ فسوف يرزقنا كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً. هاشم أبوبكر الجعلي المحامي