أمر يوميا بشارع الجامعة ذهابا وإيابا صوب مكتبي وأرقب أفواج الطلاب والطالبات يعبرون الشارع إلى الجامعة بالبوابة الكبيرة التي تفضي إلى الشجر الملوكي العتيق الذي هزم الحقب والزمان سامقا متحديا الريح والشيخوخة والانكسار وبالبوابة التي تفضي في زماننا الذي أفلت شمسه لقهوة النشاط يفيض الحنين في جوانحي وتصحو الذكرى هنيهة ثم يسكن الحنين وتهدأ الذكرى وأمضي في سبيلي ويتكرر المشهد يوما بعد يوم. فكيف بالله تسارعت خطى الزمان وكنا بالأمس القريب داخل هذه الجامعة نرفل في ثوب اليفاعة والشباب، أفواج خرجت عبر هذه البوابات الصامدة إلى فضاء الوطن الفسيح من بعدنا، وأفواج من قبلنا، قهوة النشاط اندثرت وقام مكانها مبنى حضاري جديد.. ويرى والدي عليه الرحمة وأنا أحدثه عن الجامعة وقوة النشاط وهي مبنى من الطوب مفتوح الجوانب يقف داخله عم السر وهو يضع مريلة على جسده المترهل الضخم يبيع لنا عصير الليمون والكركدى، يرى والدي أن مبنى النشاط في زماننا تطور حضري إذ كانت تجلس في زمانهم في مكان القهوة "أمونة" ست اللقيمات وسندوتشات الطعمية تبيع لهم الفطور واللقيمات والشاى بربع قرش... وهكذا يمضى بالناس الزمان، جيل يمضى وآخر يحل. واسترسل مسعود الحكيم في حكاياه عن الأحياء والموتى وأبطال الاساطير... وغنى مثلما كان يغنى من قديم.. "أيها الصاعد نحو الشمس كم من صاعد قبلك كم من صاعد بعدك في أرجوحة الكون العظيم" محمد الفيتورى اليوم وأنا أمر بشارع الجامعة وعلى يمين بوابة قهوة النشاط تصحو الذكرى وتنفض عنها وحدها غبار الزمان الكثيف وتفتح أبوابها مشرعة ونحن نتحلق جيئة وذهابا حول ذلك المقهى التليد: ود الزعيم ريحانة القهوة وملازمها الوفي. هو في القهوة على الدوام يداعب هذا ويمازح تلك ولم أسمعه يوما يستأذننا لمحاضرة.. كيف تخرج ود الزعيم بنجاح.. ذاك عبد الله جلاب يمشي كمن يمشي في الرمال فقد تأثر منذ الطفولة بالسير الوئيد في رمال بارا... وهناك أبصر عبد الرحيم أبو ذكرى الشاعر العظيم الذي رحل قفزا من الطابق 13 بمبنى الثقافة الروسى.. قال عنه الفيتورى "هو اشعرنا".. كان صموتا كثير الانطواء هزيل الجسد... وهناك يحمل ود الريح جريدته اليومية صوب الشجرة "سلامات" جريدة الكاريكتير الشهيرة ويتدافع العشرات صوبها وهم يضحكون ويمرحون... عبد الباسط سبدرات يقف في حديث انفرادى مع علي عثمان محمد طه... لم تفرقهما السياسة في الجامعة ولا خارجها... حاج نور بجسده النحيل وجلبابه وقل أن يمزح أو يبتسم... هو وجعفر ميرغني دوما بالجلابية.. وهناك يقف الشاعر العبقري محمد عبد الحي أبصر فيه أناقة أهل الحضر.. اولاد الغرب يمثلهم الشاب الوسيم صديق أم بدة.. شطار ويتفوقون علينا في الامتحان.. قال لى "لولا فول وعدس الداخليات ما وصلنا لكم في الخرطوم".. أحمد ابراهيم الطاهر شاعر مجيد أبعدته عن الشعر السياسة، خالد المبارك يتحدث بهمس وروية ويمشي باتزان، مهدي ابراهيم يدهشك في الخطابة عربي وانجليزي مثقف حتى النخاع، هناك الفاتح ابراهيم حمد يقف وسط شلتهم.. عبيد الله عبد اللطيف فضل، عمر الشامى، سميرة أمين، أسامة، إقبال عباس ابتلعتهم جميعا الولاياتالمتحدة وكندا والمانيا في مقبل الأيام.. سعيد عدنان ذلك الظريف المدهش.. آخر عهدي به لندن وهو يقع ويقوم مع زوجته البريطانية "لندا"، الخاتم عدلان خارق الذكاء قصير القامة يمضي في خط وآخر كما يمضي القطار... الزهاوى ابراهيم مالك انصارى على السكين منذ زماننا ذاك، إسماعيل حاج موسى يغالي في التأنق وحسن الهندام ويتحدث بزهو تقلد منصب رئيس الاتحاد كما تقلده علي عثمان وعبد العظيم حسنين وقبلهم حافظ الشيخ الزاكى، تقلد جلهم في مقبل الايام مناصب رفيعة وأرفع منصب تقلده معاصر لنا... كان من نصيب علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية ونشهد أن المنصب لم يبدله ولم يقلل من وفائه لأبناء جيله القدامى اتفقوا أم اختلفوا معه في السياسة وجوار قهوة النشاط مبنى البوستة ومبنى متوكل الحلاق. جيلنا خرج لأهل السودان ساسة اليوم ومفكري اليوم. وقد سأل المدرس التلميذ عبد الله علي ابراهيم في المدرسة الابتدائية ماذا يريد أن يصبح في المستقبل؟ فأجاب "مفكر" فتأمل. وها هو اليوم عبد الله علي ابراهيم الذي كان معنا في القهوة أمس يغدو من أميز مفكرى زماننا هذا. كما برز من جيلنا شعراء من أميز شعراء بلادنا: محمد المكى ابراهيم، محمد عبد الحي، عبد الرحيم ابوذكرى، فضل الله محمد، تيراب الشريف. وهناك سبدرات مبارك بشير وعووضة وفاطمة بابكر والرضية آدم وحسين حميدة ومحمد تاج السر ومحجوب عباس. ومن الساسة خالد المبارك وعلي عثمان محمد طه ومهدي ابراهيم وعبد العظيم حميدة وقطبي المهدي والخاتم عدلان وإسماعيل حاج موسى وأحمد ابراهيم الطاهر والزهاوي ابراهيم مالك ومكاوي عوض المكاوي وحاج نور وود الزعيم ومحمد نورى والطيب حاج عطية. وغيرهم تفوق ابناء جيلنا في دروب الحياة وفي أرض الله الواسعة وفيهم من ذهب الى ربه راضيا مرضيا. ولسنا وحدنا الذين خرجتهم جامعة الخرطوم فالأجيال تتعاقب والزمان يمضى ودولاب الحياة يستدير ويستدير حراكا حول دائرة هى الأيام والحقب. أبصر في المقهى وباب الذكرى لا يزال مشرعا شارلت مانيانق واشول دينق اصبح كلاهما سفيرا للسودان الموحد وابصر وندريوث ديو. علمت أنه هاجر لدولة الإمارات.. كان هو وشارلت بالمستوى العالمى في كرة السلة، من فرقنا، من شطر السودان وكان عصيا على الانتظار: شاءت الأيام أن تشهد عصر الانفصال واقتسام النهر والأرض القديمة والجبال والجباريك الصغيرة والعصافير الطليقة والتلال نسأل الآن وهل يجدى السؤال ما الذي أفضى إلى هذا المآل ما الذي فرقنا غربا وشرقا وجنوبا وشمال ما الذي قاد إلى هذا الوبال ما الذي قزمنا وقد كنا عمالقة طوال ما الذي أورثنا ضعفا وجهلا وخبال ضمنا السودان أديانا وأعراقا وأهلا منذ تاريخ سحيق ما الذي صار بنا يوم يحيق وطن رحب فسيح كيف بالناس يضيق آه لم يحزني بعدك عنا يا صديق يا زميلي في فصول المدرسة وشريكي في الصبا الغض الوريق يا أخي في الوطن المكلوم يا زادي إذا طال الطريق ورفيقي في اندياح العمر أفراحا وضيق كانت الأحلام أن نبقى سويا في الوطن وأفقنا ليت أنا لا نفيق) من قصيدة لي في وداع شول دينق بعد انفصال الجنوب . تهدأ الذكرى ويعود منها إلى سكون وأبتعد بسيارتي عن مدخل قهوة الناس .. وتجتمع وتزدحم مرة أخرى في ذهني مشاغل الحياة، وهذه التي اختتمها إضاءة عاجلة وغير مرتبة عن ذكريات عمرها تجاوز أربعين عاما ولا تزال تبرق حية في دواخلنا، أسقطت الكثيرين من الصحاب ..محمد إبراهيم وجعفر أبو الجعافر وسميرة وعلية ومريم وآسيا وسلمى والعضيري وعوض جاد الرب وفهمي ومرتضى وحسن ومصطفى سليمان وغيرهم وغيرهم وهل يفي بذكرهم كلهم هذا المقال نادر أحمد الشريف ..الفاتح الملك التاج المقبول والمقبول ومحيي الدين ... مع تحياتي