د. عبدالعظيم ميرغني بمناسبة ذكرى رحيله الخامسة .. ويوم البيئة حينما حل الدكتور عبدالحليم إسماعيل المتعافي محل المرحوم بإذن الله الدكتور مجذوب الخليفة أحمد والياً على ولاية الخرطوم، وانتقل المرحوم مجذوب لشغل وظيفة وزير الزراعة والغابات حرصت على حضور الاحتفال الذي أقامته ولاية الخرطوم استقبالا للأول ووداعاً للثاني. كنت حريصاً جداً على حضور ذلك الاحتفال. أولاً لعلاقة شخصية تربطني بالمتعافي. وثانياً بدافع الفضول والتعرف على القادم الجديد لوزارتنا (الزراعة والغابات) والذي لم تكن تجمعني به ظروف تعامل قبل مجيئه للوزارة. وبالرغم من تباري المتحدثين والخطباء في ذكر مناقب المحتفى بهما وسرد سيرتيهما الطيبة إلا أن أكثر ما لفت إنتباهي وثبت في ذهني من كل ما قيل تلك العبارة التي نطق بها أحد وزراء حكومة الولاية المخضرمين، حين قال: "الذي يعمل مع مجذوب يصعب عليه العمل مع سواه من الرجال". كان الرجل يتكلم بثقة كافية، وكانت نبرات الصدق واضحة في كلماته في تلك اللحظات، وهي لحظات وداع وفراق، وما أصدق الإنسان في لحظات الوداع والفراق. كانت تلك العبارة هي ضالتي التي جئت أبحث عنها في تلك الليلة ومفتاحي لشخصية مجذوب. وقد وجدته والله على ما أقول شهيد حسبما سمعت عنه في تلك الليلة، وإنساناً شهماً لطيفاً رغماً عما يبدو في معاملاته أحياناً من خشونة وشدة. فقد دخلت معه في مواقف عصيبة كنت أرى نفسي فيها على صواب، ولم يستنكف هو أو يستكبر حين يرى أحد مرؤوسيه يقف منه مواقف كذاك، بل وجدت منه كل التفهم والتعضيد والسند. كان العمل مع مجذوب ممتعاً ومحفزاً، فهو يشجعك على إطلاق قدراتك وطاقاتك إلى أقصى مداها دون خوف أو وجل من الفشل، وكان كثيراً ما يحفزنا بقوله (الحد عندي في العمل العام هو الحد بين الحلال والحرام افقياً وسماء لا تطاولها سماء رأسيا). كان يستنفر فينا كل القدرات ويستنهض فينا كل الطاقات والهمم. كان مجذوب عالماً من الألمعيات التي بز بها الفنيين والمختصين وبهرهم بفنون حديثه وابتكار المصطلحات الفنية (الهيئة هيئة سيادية، والامتياز امتياز الصمغ لا امتياز شركته، والغابات ثروة قومية غير قابلة للقسمة في أصولها). كان مجذوب من جماعة "أطباء بلا حدود" على قول بروفسور حسن عثمان عبدالنور و"بلدوزراً حسب قول البعض الآخر، و"تبلدية" "وشجرة معالم" حسب قول أهل الغابات. رجل لا ككل الرجال، يقود الرجال في تعامله مهم ويستلب إراداتهم دون أن يشعروا بسيطرته عليهم أو يحسسهم بفرض آرائه عليهم أو اشعارهم بتبعيتهم. له مقدرة عالية على الوفاء باحتياجات الآخرين دون تفريط في إرادته. لم يكن مجذوب بالرجل الذي يقنع بأنصاف الحلول. ولا يعرف قاموس ألوانه لونا رماديا أو خاطف لونين. كان كبيرا في كل شيء والعمل معه لا يخلو من الإثارة لكنها إثارة الكبار التي تسمو وتتسامى فوق الصغائر. كان مجذوب رجلاً يندر مثاله من حيث القدرات النفسية والفكرية. كان يثق في نفسه وقدراته غاية الثقة، رجل يحول الروتين الى ثورة، والعادة الى استثناء، وواقعة الفاو شاهداً على ذلك، وما واقعة الفاو بسر. فقد انعقد مؤتمر منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) دورة 2003م، وكان مجذوب نائبا لرئيس المؤتمر (ممثلا للسودان وللمجموعة الأفريقية). وكانت رئاسة الدورة لدولة الأمارات الشقيقة (ممثلة لمجموعة الشرق الادني). وكان موضوع الجلسة "حقوق الدول النامية في استخدام مواردها الوراثية" وهو موضوع ظل معلقاً على مدى 7 سنوات يطرح للتداول في المؤتمرات التي كانت تنفض دون التوصل لاتفاق بسبب تمنع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولم يستطع المؤتمر على مدى دوراته المتتالية من حسم هذا الموضوع حتى جاءت تلك الدورة التي استأذن مجذوب مندوب دولة الأمارات في رئاسة الجلسة التي كان مقرراً لها أن تناقش هذا الموضوع. فوقعت الواقعة بعد أن اسقط في يد أمريكا بانتصار الدول النامية المغلوبة على أمرها بفضل رجل واحد هو مجذوب. وأظنها أول مرة في التاريخ أن يتمكن رجل بمفرده من هزيمة أمريكا لقد كان ذلك يوما مشهودا في تاريخ الأممالمتحدة وكان اكبر انجازات تلك الدورة. وقد استخدم مجذوب كل عبقريته وجرأته في الاقتحام في تلك الجلسة التي بدأها بطرح الموضوع على التصويت بحجة أنه وجد كفايته من النقاش خلال الدورات السابقة، فضجت القاعة بالتصفيق، وكان ما كان. لقد وجدت الغابات (مرفقا وموردا) خلال فترة تولي مجذوب لوزارة الزراعة والغابات من أبريل 2001 وحتى سبتمبر 2005، الاهتمام والدعم والسند. فقد استهل دورته بالاحتفال بالعيد المئوي للغابات والذي بدأ بعقد جلسة تاريخية لمجلس الوزراء الموقر برئاسة هيئة الغابات، وتكريمها بمنحها وسام الانجاز، ومنح عدد من العاملين بالغابات من الأجانب والمحليين وسام النيلين. وفي مجال التشجير استهل مجذوب دورته بتكوين لجنة عليا لنفرة التشجير الكبرى تحت إشرافه ورعاية رئاسة الجمهورية. وفي عهده أصبحت مناسبة عيد الشجرة تحت رعاية رئاسة الجمهورية وصدرت فيها سياسات متنوعة للمحافظة على الغابات وتنميتها. ورصدت لها العديد من الجوائز والحوافز التشجيعية: كدرع الجمهورية للغابات لتتنافس عليه الولايات/جائزة الشهيد الزبير ليتنافس عليه أصحاب الغابات الشعبية/ جائزة الفاتح النور ليتنافس عليها الإفراد والمناسبات. فقد شهدت الغابات طفرة في عمليات التشجير. وفي مجال حماية الغابات قاد مجذوب حملة قومية شاملة لمكافحة جرائم الغابات فتكونت لجان قومية وولائية شاركت فيها الجهات الأمنية مما حد من ظاهرة التغول على الغابات. كما صدرت سياسات المحافظة على الغابات التي أحدثت انقلابا نوعيا في السياسات الزراعية حين أصدر مجذوب قرارات حظرت استحداث المشاريع الزراعية في مناطق الغابات الطبيعية، ووجهت بالتوجه الراسي في الزراعة. وأعطى الهيئة حق الفيتو في لجان التصرف في الأراضي الزراعية بالولايات عند التصديق بالمشايع الزراعية. وفي مجال التشريعات صدر قانون الغابات والموارد الطبيعية المتجددة لسنة 2002. وصحب ذلك الكثير من الإنجازات في مجالات السياسات والتشريعات وحجز الغابات. ألا رحم الله دكتور مجذوب وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وجزاه بقدر ما قدم لوطنه وأمته.