قبل أن أسترسل أود أن أشكر الأستاذ بابكر فيصل على إهتمامه بقراءة المقالين، الأول والثاني من هذه السلسلة، وتفضله بالرد عليهما، مخالفاً لطرحي، بقدر عالٍ من الموضوعية والصدق والأمانة في النقل. وسأقوم، بحول الله، بالتعقيب على رده - المتسلسل كذلك - ضمن هذه السلسلة ابتداءً من الحلقة الرابعة. وأعتذر للقارئ عن التأخر عن نشر هذه الحلقة لأسباب شتى لا أود أن أشغله بها. ولنواصل بالقول أنه لولا القدرات الفكرية والتنظيمية للأحزاب والنقابات اليسارية لما سقطت الحكومات العسكرية السابقة، بما فيها نظام مايو. وقد كان للحزب الشيوعي السوداني دور كبير في سقوط النظامين العسكريين السابقين. هذا بعد أن ساهم هذا الحزب في صنع أحدهما – وهو نظام مايو- ثم إنقلب عليه. ولكن تلك القوى التي ألهبت ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل لم تستطع الحفاظ على مكاسب الثورتين، فآلت السلطة إلى القوى الطائفية ومشايعيها من المتعلمين النفعيين. ولولا غفلة النخبة التي ساهمت في صنع الثورات لما آلت السلطة للأحزاب الطائفية مرتين آخريين بعد الحكم الحزبي الأول إبان جلاء المستعمر. إذن، أتيحث ثلاثة حقب ذهبية للأحزاب السياسية التي سبقت الإنقاذ لكي تضع بصماتها التنموية في أرض المليون ميل مربع. أتيحت الفرصة تلو الفرصة تلو الفرصة لوضع تلك البصمات بعد العهد الحزبي الأول قبل إنقلاب نوفمبر، والعهد الحزبي الثاني بعد ثورة أكتوبر، والعهد الحزبي الثالث بعد إنتفاضة أبريل. ولكن لم ير السودان أثراً لأي بصمة تنموية نستطيع أن نقول أنها ارتسمت على أرض السودان في العهود الحزبية. والقارئ المنصف لتاريخ السودان لا بد أن يذكر أن الإنقاذ، مقارنة بالأحزاب الطائفية، ساهمت في العمران والتحديث بجدية لا نظير لها. وهذه حسنة كبرى من حسنات الإنقاذ. هذا مع تسليمنا أن العمران الحضري والتحديث لا يعنيان بأي حال من الأحوال التنمية المستدامة، كما سبقت بذلك الإشارة في حلقة سابقة. وحسنة ثالثة من حسنات الانقاذ أنها أدركت فداحة توظيف خطاب الهوس الديني لأهداف سياسية فخففت من ذلك الخطاب، خاصة بعد ما يسمى بالمفاصلة، وهي لحظة إزاحة الدكتور حسن الترابي عن مركز النفوذ في الدولة والحزب. وقد يقول قائل أن الهوس الديني مازال يعشعش بيننا. وهذا صحيح. ولكن مقارنة بسيطة بين الخطاب السياسي قبل المفاصلة وبعدها، حتى تاريخه، تؤدي إلى أن نبرة الهوس قد قلت حدتها. ويتبدى ذلك بشكل واضح بعد دخول الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 2005 في عمق الصراع الفكري والسياسي في السودان بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل ووضعها موضع التنفيذ. وانحصار الحركة الشعبية بفرعها الجنوبي في الجنوب لا يعني أن "فكرة" الحركة الشعبية في السودان الشمالي قد انتهت. فالحدود لم تكن في أي زمن من الأزمان سداً يمنعأ فكرة من التنقل عبرها. ولا يفوتنا أن تحجيم الهوس الديني ساهم فيه الحراك السياسي القوي داخل السودان قبيل وبعد وضع اتفاقية السلام حيز التنفيذ. ولا ينكر إلا جاحد دور الحركة الشعبية في هذا التحجيم. ولا يظنن أحد أن ممثلي الهوس داخل مراكز قوى الإنقاذ تنازلت نبلا عن هذا خطابها العنيف، بل هي سيقت إلى هذا التنازل سوقاً. سيقت إلى الإتزان سوقاً أجلسها مع من وصمتهم بالكفر وبالخيانة ووسمتهم بالضعف والانهزام. وتدرج الخطاب السياسي نحو الإتزان في إطار صراع مراكز القوى داخل الإنقاذ، وفي إطار الصراع مع خصومها، مصداقاً لقوله تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات.." ولا نشك أيضاً أن الدوافع نحو تلطيف الخطاب السياسي كانت من أجل المراءاة للخصوم من أجل التحكم في السلطة والثروة حين بلغ الصراع أشده. أما حسنات الحركة الشعبية فلا ينكرها إلا جاحد لا يعرف للسودان ولا لأهل السودان قيمة. ويكفي أن الشعب السوداني قد صوت بأقدامه لصالح رؤية الحركة الشعبية لسودان موحد يعترف بالتنوع الديني والعرقي والسياسي في السودان. تمثل ذلك في الجموع التي استقبلت الزعيم الوطني المخلص الدكتور جون قرنق دي مابيور في مطار الخرطوم بعد توقيع إتفاقية السلام، مع بداية تنفيذها. ورؤية الحركة الشعبية التي أهرقت في سبيلها دماء الملايين من السودانيين إنما هي الحسنة الكبرى للحركة الشعبية. وهي، عندي وعند كثيرين غيري، ما زالت تمثل الأساس لسودان جديد سيتكون من دولتي السودان الحاليتين. هذا، على الرغم من انفصام جنوب السودان. واستخدم كلمة "انفصام" هنا يأتي عمداً. ففي نظري أن ما حدث انفصام مؤقت سيتم علاجه وسيعود السودان موحداً - ربما بصيغة كونفدرالية - من جديد بأفضل مما كان ليسر الناظرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هكذا كان يعبر الأستاذ محمود محمد طه دوماً حين يتحدث عن بشريات مآلات إنسان السودان بعد انتهاج الطريق الصحيح لتحقيق مفهوم الحرية الفردية المطلقة والعدالة الاجتماعية الشاملة. وهذه ليست مجرد مثالية وأمنيات، كما قد يتبادر إلى البعض. فهناك نماذج عديدة لدول انقسمت ثم توحدت، وألمانيا واحدة منها. والسودان يمكنه أن يكون رائداً في هذا الباب، فالانقسام لم يكن إلا بسبب التطلع للعدالة والمساواة. صحيح اننا تنكبنا الطرق إليهما، ولكن كتلة الوعي بتنوعنا، وبضرورة احترام مكوناته تظل تتزايد في جانبي الحدود الحالية المصطنعة. وكل الدلائل تشير إلا أن المشاكل والأزمات التي بدأت تتصاعد في الدولتين، وبعضها سببه المباشر هو ما يسمى بالانفصال، سلتجئ الطرفين إلى بعضهما البعض قريباً، بخاصة بعد أن تزول الأسباب التي أدت للاحتراب ثم إلى تقرير المصير. والوعي المتنامي بضرورة احترام التنوع تدل عليه كثير من المؤشرات. لم يك الاستقبال المهيب لدكتور جون قرنق إيذاناً في الشروع ببدء اتفاقية السلام إلا مباركة لأكبر حسنة من حسنات الحركة الشعبية. هذه الحسنة هي تعميق ترسيخ الخطاب العام الذي ينظر إلى كل السودانيين، شماليين وجنوبيين، باعتبارهم مواطنين أصلاء، ذوي كرامة وعزة، ويستحقون أن يتساووا بعضهم مع بعض في الحقوق والواجبات كافة. هذا بعد أن ضاق معظم السودانيين بالنظرة العنصرية الضيقة التي كادت أن تفنى ما تبقى من خير فيهم وفي السودان. ولا أحتاج للتفصيل في معنى هذه الحسنة. فالحركة الشعبية جاءت منذ يومها الأول تبشر بمشروع واضح المعالم وهو مشروع السودان المتسع للجميع، بغض النظر عن التمايز العقائدي والإثني والفكري. في الحلقة الرابعة سأتكئ على سلسلة المقالات التي كتبها الأستاذ الفاضل بابكر فيصل رداً على الحلقتين الأولى والثانية. *جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الظهران