د. عبدالعظيم ميرغني هدى شعراوي ... عامان من الرحيل في مثل هذا اليوم، الثالث عشر من شهر أغسطس سنة 2010، رن جرس الهاتف لينعى لي الناعي وأنا على فراش المرض زوجتي "هدى شعراوي" التي كانت تمارضني ثم دخلت المستشفى ولم تمكث فيه سوى يوم وبعض يوم قبل أن ترحل رحيلاً أبدياً مفجعاً ومفاجئاً في حوالى الخامسة من فجر ذلك اليوم. كثير ممن لم يسمع بخبر دخولها المشفى وجاء معزياً كان يتساءل: من المتوفى، الزوج أم الزوجة؟ فقد ظن الكثيرون أن الأمر لا بد أن يكون قد التبس على الناعي فخلط بين الزوجين. كانت "هدى" لا تشكو من علة أو مرض كما كنت أشكو. كما كانت تصغرني في السن. وقد قلت لها مرة ممازحاً: إنك بجانب تميزك عليَّ بصغر السن والسلامة البدنية من الأمراض المزمنة، فإنك كعامة بنات جنسك معشر النساء أطول منا معشر الرجال ألسنة وآجالاً، ولذلك فإني أراهنك على أنك ستعيشين طويلاً بعدي. فتبسمت في صمت ولم تقل شيئاً وكأنها قد قبلت التحدي. لو كانت الأمور تقاس بمقاييس المنطق والعقل وتوزن بموازين البشر لسارت وفق ما كنت أتنبأ وعلى غرار ما ظن المعزون، ولكسبتُ الرهان، ورحل المريض وبقي الممارض. ولكنها أقدار الحياة الموقوتة وآجالها المسبوقة. رحم الله هدى شعراوي فقد كانت دوماً تكسب كل رهاناتنا. ذهبت بعض المذاهب إلى أن العمر الإنساني مقدر على حساب الطاقة الإنسانية وأن تقدير الأعمار والرسالات الحياتية يعطي الفرد من العمر بمقدار ما يستوفيه من طاقته الذهنية والنفسية. وذهبت هذه المذاهب إلى أن عمر الفرد يقدر بستة أمثال فترة نضجه العقلي واستوائه الخلقي. فمن ينضج عقلياً في عشر سنوات فغاية مداه العمري لا يتجاوز ستين عاما. ووجد أصحاب هذا المذهب في هذا التقدير مطابقة لما هو مشاهد من قصر في آجال النوابغ. فأعجوبة زمانه الإمام الغزالي ألف خلال مدة حياته التي لم تتجاوز 55 سنة من الكتب ما قيل إن تصانيفه لو وزعت على أيام عمره لأصاب كل يوم كتاب. والإمام المهدي (أبو السودان الحديث) توفاه الله بعد أن حقق ما هو غير عادي، في زمن غير عادي من حيث قصر المدة والعمر، وعالم الفيزياء والرياضيات المعجزة جون فون نويمان المجري الأصل والذي قيل أنه أكثر من عاش على وجه الأرض عبقرية من العلماء مات وهو في سن الرابعة والخمسين. رحلت هدى وهي لما تكمل عامها الحادي والخمسين. وقد أظهرت نبوغاً وتميزاً باكراً انعكس جلياً على حياتها العلمية وسيرتها العملية. فقد استهلت مشوارها التعليمي بتحقيق المركز الأول ونيل جائزة التميز الأكاديمي في الشهادة الصغرى (الأساس) على مستوى ولاية النيل الأبيض. واختتمت مسيرتها التعليمية بجامعة الخرطوم بإحرازها المركز الأول ونيل جائزة الخريج الأفضل على مستوى دفعتها بكلية الغابات في عام تخرجها. وقد لازمها هذا التفوق طوال فترة بعثتها من جامعة الخرطوم لنيل درجة الماجستير في اقتصاديات الغابات بجامعة ويلز بالمملكة المتحدة، ومرة أخرى حين ابتعثت لنيل الدكتوراه من جامعة هلسنكي الفنلندية، التي تخرجت فيها كأول امرأة من نساء العالم تتحصل على الدكتوراه في مجال اقتصاديات الغابات من جامعة هلسنكي. اتسمت سيرة "هدى" العملية بذات التميز الذي اتسمت به حياتها الدراسية. سواء على صعيد عملها الأكاديمي كأستاذة بكلية الغابات جامعة الخرطوم أو على صعيد العمل الإداري حيث شغلت عدة وظائف إدارية بالكلية، أو على صعيد البحث العلمي حيث أجرت العديد من المشاريع البحثية ذات الأولوية القصوى في مجال الغابات، وأشرفت على العديد من رسائل الدكتوراه والماجستير ونشرت عشرات الأوراق العلمية والكتب والتقارير المنشورة في دوريات عالمية ووطنية وعملت محررة ومحققة في بعض الدوريات العلمية الوطنية والإقليمية. وأيضاً على صعيد العمل الاستشاري لدى المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية. وقد انعكست علاقات "هدى" العلمية الواسعة ونشاطاتها العملية المتعددة في سيل رسائل العزاء التي انهالت علينا من كل حدب وصوب من كافة بقاع السودان ومن بعض دول العالم كفنلندا واستراليا ومصر وأمريكا وموريشوص وبريطانيا وإيران وإيطاليا وسوريا وزامبيا ودول الخليج وزيمبابوي وكندا وجامايكا. كانت هدى امرأة عظيمة بكل المقاييس، حققت كل تلك الإنجازات العلمية والعملية، في وقت قصير ووجيز، ولكن ليس على حساب دورها كأم رءوم وربة أسرة عظيمة وزوجة وفية صالحة ورفيقة درب مخلصة. ف"هدى" في تقديري نموذج رائع ومثال يحتذى للمرأة المعاصرة التي وجدت نفسها تواجه تحديات التوفيق بين الوفاء بوظائفها البيولوجية والاجتماعية الأساسية كأم وواجباتها الاجتماعية كزوجة وربة أسرة ومسئولياتها الوطنية كفرد صالح له رسالة، نافع لمجتمعه وأمته ووطنه. يقول كنفوشيوس حكيم الصين: “معاملاتنا الموتى كأنهم موتى ولا شئ غير ذلك فقدان للعطف والوفاء، ومعاملتنا الموتى كأنهم أحياء ولا شيء غير ذلك فقدان للعقل والحس، فلا هذا ولا ذاك، ولكنه قوام بين الأمرين". ف"هدى" من واقع حادثة رحيلها الفاجع والمفاجئ في مثل هذا اليوم قبل عامين، في عداد الأموات الذين ندعو الله لها ولهم بالرحمة الواسعة والمغفرة إن شاء الله، ونبتهل إليه عز وجل باسمه الأعظم أن يكرم نزلها ونزلهم ويتقبلها ويتقبلهم ويسكنها ويسكنهم فسيح جناته. أما في عدا ذلك، وبمعزل عن تلك الحادثة، ف"هدى" حية فينا، باقية في هند ومهند ومحمد، وفي علمها وعملها النافع بإذن الله، وستبقى ذكراها العطرة متقدة في نفوس أهلها وأصدقائها وزملائها وطلابها وكل معارفها. ول"هدى" مني في مماتها مثلما كان لها في حياتها ويزيد، وفاء ومودة وتلازم وتواصل روحي واعتراف بفضلها ورجاحة عقلها التي جعلت علاقتنا الزوجية مميزة ومباركة وأضفت على حياتنا قيمة وألقاً ومعنى. رحم الله هدى شعراوي