** هكذا.. الفاروق عمر رضي الله عنه، يخرج ليلاً في شوارع المدينة وأزقتها، لا ليتلصص على رعيته ولكن ليتفقد حالها، وإذ بأعرابية تناجي زوجها الغائب وتنشد في ذكراه شعراً : طاول هذا الليل واسود جانبه ، وأرقني إذ لا حبيب ألاعبه / فلولا الذي فوق السماوات عرشه، لزعزع من هذا السرير جوانبه..فيقترب الفاروق ويسترق السمع، ثم يسألها من خلف الدار : ما بك يا أختاه ؟..فترد الأعرابية بمنتهى الشفافية : لقد ذهب زوجي بأمرك - يا أمير المؤمنين - الى ساحات القتال منذ أشهر، وإني أشتاق إليه.. فيرجع الفاروق الى دار ابنته حفصة رضي الله عنها ويسألها : كم تشتاق المرأة الى زوجها؟..وتستحي الابنة وتخفض رأسها، فيخاطبها الفاروق : إن الله لايستحي من الحق، ولولا أنه شيء أريد أن أنظر به في أمر الرعية لما سألتك..فتجيب الابنة : أربعة أشهر أو خمسة أشهر أو ستة أشهر..ويعود الفاروق الى داره، ويكتب لأمراء الجيش (لاتحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر)، ويصبح الأمر قانوناً يحفظ للمرأة أهم حقوقها..تابع القانون ..لم تصغه قمة الجهاز التنفيذي والتشريعي للدولة، بل صاغه المجتمع - الأعرابية وحفصة - واعتمده قمة الجهاز التنفيذي والتشريعي للدولة، لتعمل به في تنظيم بعض شئون المجتمع..!! ** ذاك نموذج .. والفاروق ذاته - رضي الله عنه - يواصل التجوال الليلي متفقداً وليس متلصصاً، وإذ بطفل يصرخ، فيقترب من البيت ويسأل من وراء الجدار عما به، فترد أم الطفلة : إني أفطمه يا أمير المؤمنين ..حدث طبيعي، أم تفطم طفلها ولذا صرخ، ولكن الفاروق لا يمضي الى حال سبيله، بل يستمر في الحوار، ثم يكتشف بأن الأم لم تفطم طفلها قبل موعد الفطام إلا لحاجتها لمائة درهم يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام.. يرجع الفاروق الى منزله، لا لينام، إذ صراخ ذاك الطفل لم يبارح عقله وقلبه ، فيصدر أمراً في ذات الليلة (بصرف المائة درهم للطفل منذ الولادة ، وليس بعد الفطام)، ويصبح الأمر قانوناً يحمي الأطفال من المخاطر الناتجة عن الفطام المبكر..لو لم يكن الفاروق في ذاك المكان في تلك الليلة، ولو لم يدر ذاك الحوار مع فرد من أفراد مجتمعه، لما صدر هذا القانون الذي يحمي بعض حقوق الطفل ..فالمجتمع - عبر تلك المرأة - هو المشرع لهذا القانون، وما قمة الجهاز التنفيذي إلا للإشراف والتنفيذ.. كان هذا قانونا للطفل، وذاك قانوناً لحق المرأة ..!! ** ولمن هذا القانون المرتقب؟، والتجسد في أعظم مواقف الفاروق رضي الله عنه.. فلنقرأ، ونتأمل.. كان يحب أخاه زيدا، وكان قد قتل في حروب الردة، وإذ به يلتقي وجهاً لوجه بقاتل زيد، وكان قد استسلم وأسلم بحيث صار فرداً في رعيته، فيخاطبه الفاروق غاضباً : والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح..فيسأله الأعرابي متوجساً : وهل سينقص ذاك من حقوقي؟..فيطمئنه الفاروق (لا)، فيغادره الأعرابي بعد أن يسمعه نصا فحواه : إنما تأسى على الحب النساء.. أي مالي أنا وحبك، إذ يهمني حقوقي..لم يغضب أمير المؤمنين ولم يشهر سيفه..ولكن، كما كظم حزنه على موت أخيه زيد، كظم غضبه على جرأة قاتله وعلى وصفه ذاك، ولم يفعل ذلك إلا إيماناً بحق هذا الأعرابي في حرية التعبير..بكظم الغضب - وهو في قمة السلطة - وضع الفاروق قانوناً يبيح للآخر حرية التعبير بلا توجس على ضياع حقوقه .. وهكذا تُصنع القوانين، أي من غايات المجتمع ..!!