ولأن من رأى ليس كمن سمع .. وللوقوف على المشهد التراجيدي الذي خلفه المتمرد مالك عقار .. قررتُ الذهاب الى المناطق «المحررة» التي اشعل فيها عقار حرباً مأسوية أكلت الحرث والنسل .. وفي صباح يوم مطير وبرفقة الزميل الصحفي زكريا حامد . الذي كان في زيارة خاصة للنيل الازرق .. كان دخولنا الى محلية باو .. كأول صحفيين يدخلون الى محلية باو بعد احداث النيل الازرق .. المحلية التي تأثرت بالحرب .. باو التي أراد منها عقار .. أن تكون منطقة مقفولة يمارس منها مخططه الاجرامي .. فمن باو قاد عقار تمرده .. انفاذاً لمخطط «اسياده» الذين شروه بدولاراتهم النجسة .. فما ربح ولا ربحت تجارتهم، فقد كان جيشنا الباسل له بالمرصاد .. فدحرهم ومزقهم فتفرقت فلول جيشه العميل أيدى سبأ .. فتطهرت باو من دنسهم ورجسهم .. فمن بوابة محلية باو تكشف لنا المشهد وبانت رايات الاستقرار.. الاستقرار الذي رسمته على أرض الواقع قواتنا النظامية .. برز لنا بصورة واضحة لا تخطوها عين .. في التعايش السلمي بين مكونات المحلية .. من أنقسنا وعرب كنانة ورفاعة في قرية الفردوس.. واب قرن.. وبرز لنا في محطات مياه الشرب التي وراءها وزارة التخطيط العمراني .. والمدارس التي فتحت ابوابها للتلاميذ .. وفي المزارعين الذين انتشروا في الحقول «بتركتراتهم» ومعاولهم .. وفي شركات الكروم الممتدة على طريق الدمازين .. الكرمك .. الطريق الذي قصد عقار أن لا يكتمل .. لشيء في نفسه .. فالمتمرد عقار .. كان مبيت النية لحربه .. تأكدنا منها في أب قرن .. التي شهدت قتل أبرياء .. عند أخذ رأيهم في المشورة الشعبية .. فقد راح ضحايا في أب قرن .. ففي أب قرن وقفنا على الخندق الذي اقامه عقار قبل شهر من احداث الدمازين .. ومنه انطلقت مدافع دباباته .. فخندق اب قرن .. ما زال باقياً دليلاً على غدر وخسة عقار .. والله غالب أمره .. وعلى طول الطريق الذي تكسوه الخضرة الداكنة .. ترفرف رايات الاستقرار .. المراعي الخضراء تحتضن المواشي واشجار الهشاب مخضرة تنتظر اكتوبر موسم «طق» الهشاب والجبال خضراء تزيد اللوحه بهاءً وجمالاً .. وقرية بقيس واشجار الدليب .. والعائدون الذين فروا من أتون حرب عقار .. يمارسون حياتهم الطبيعية .. فأكثر من خمسة آلاف مواطن شيدوا منازلهم وأقاموا أسواقهم .. فكل ما طلبوه من حكومة الدمازين .. التقاوي.. فاوفت لهم الحكومة ولسانهم يلهج بالثناء للوزير حسين يس وزير الرعاية الاجتماعية وجودابي وزير «الماء» والوالي الهادي بشرى ومعتمدهم ابن المحلية دفع الله المك .. هذا المعتمد الذي يتفقدهم صباح مساء .. يحدثهم بلسانهم .. ويجالسهم تحت شجرة الهجليج فما غيرته بلاد المغرب الجميلة .. التي عاش فيها .. فهو «المك» الانقسناوي .. المرتبط بالأرض والعشيرة .. فلم تمنعه قلة امكانات محلية تأثرت بالحرب .. من أن يقدم للعشيرة الاستقرار .. فالمحلية التي لا تملك أكثر من «4» عربات.. لم تمنعه من التواصل مع العشيرة .. فالمتمرد عقار الذي لم يقدم لعشيرته غير التشرد والجوع والمخمصة .. نهبت قواته العميلة مركبات المحلية.. وهنا يبدو سؤال في غاية الأهمية .. أين نواب الحركة الشعبية بالمجلس التشريعي .. نسأل هل زاروا .. مواطنيهم بعد وقوع الحرب؟ .. وأين نائب دائرة باو بالمجلس الوطني .. كمندان جودة؟.. هل زار عشيرته التي حملته الى قبة المجلس الوطني؟؟ وأين عباس جمعة ؟؟ المأساة أن هذه النخب كانت تتاجر بالانقسنا .. وأكبر التجار .. كان مالك عقار .. فقد حكى لي شيخ التقيته في تجمع قرية «مقنزا» التي يقطنها أكثر من «14» الف نسمة.. عادوا بعد أن شردتهم الحرب .. ان عقار وزمرته .. كانوا .. يقولون .. لهم .. إن عقار هو الرئيس وأن البشير قد سجن !! يا للدجل والهراء .. ويا للاستخفاف بعقول البسطاء.. وفي ذات (مقنزا) التي أصبحت موطناً للاستقرار والسلام .. التقيت «بسيدة» تورمت أرجلها من السير في الادغال والجبال .. حكت لي عن مأساة المواطنين الذين يحتجزهم الخونة .. في مناطق وعرة بجبال الانقسنا .. يمنعوهم من الذهاب الى قرى السلام يستعملونهم كدروع بشرية .. اطفال ونساء وشيوخ.. قالت لي .. إن هؤلاء الابرياء .. يتضورون جوعاً .. طعامهم عروق الاشجار .. يحبسهم أبناء جلدتهم .. الذين فهموهم أن «الجلابة» سيقتلونهم .. وقالت لي تأكدت من بعد وصولي .. وبعد أن قدمت لنا الحكومة كل المعينات ان ما كان يقال لنا كذب وهراء .. وأن عقار وزمرته هم مجرد قطاع طرق .. وسألتها عن المناطق التي يحجز فيها عقار المواطنين .. فقالت إنهم محتجزون في مناطق جبلية وعرة .. في خور يابوس وخور الجداد.. وأن عدداً من المواطنين قد قتلوا أثناء محاولتهم الفرار .. يا للمأساة .. عقار يُبيد بني جلدته .. بالجوع وبالمرض .. وبمفارقة الاوطان .. وبالرصاص .. فأي هذا الوحش الكاسر .. الذي يريد أن يحكم النيل الازرق بحكم ذاتي؟ .. أي هذا المجرم .. الذي يريد أن يحكم شعباً أعزل بمشروع السودان الجديد؟.. إنها مأساة .. لن تحلها لمسة سحرية عجائبية .. إنها صورة قاتمة .. عجن الوانها ورسمها مالك عقار .. هذا المأفون.. فمالك الذي نهب اموال النيل الازرق .. لم يكتف بجريمة سلب المال العام .. فاراد ان يخرج انسان باو من داخل ارضه .. اراد بحقده على هذا الشعب الذي بالتهديد ان يجعله حاكماً يزرع الكراهية تجاه كل ما هو مسلم .. ولكن هيهات له.. فالوجوه الطيبة التي التقيناها في «مقنزا» تهلل وتكبر وتقرأ القرآن الكريم .. في زوايا الشيخ الصابونابي .. ترفض افكاره ومبادئه .. فالمغني الانقسناوي الكفيف يرفض ان يعيش في مناخات العداء والكراهية .. يرفض اكذوبة التهميش.. يرفض الذين يزرعون المتفجرات في الاشجار.. فقد كره المغني اصوات الرصاص .. كره ان تحول الافراح الى مأتم .. لذا جاء حافياً هو وعشيرته الى مقنزا .. واب قرن.. والفردوس.. وديرنق.. ليغني للاطفال وللاستقرار والسلام منادياً .. العائدين .. بزراعة الارض الطيبة .. فالسماء جادت بالمزن الهطال والارض اهتزت وربت .. والله المستعان.