الاسبوع الماضي لم أشأ وأنا في طريقي لمدنية نيالا لحضور فعاليات المعرض التجاري الإستثماري في نسخته الثانية تلبية لدعوة كريمة من والي الولاية الأستاذ حماد إسماعيل حماد، أن أهرع الى أركان الذاكرة استدعى شيئاً من الذكريات التي ربطتنا بقوة بمدينة نيالا، منذ سنوات بعيدة، عندما زرناها للمرة الأولى بعد منتصف الثمانينيات فنشأت بيننا إلفة ومحبة فأصبح للمدينة وأهلها في القلب موقع ومكان يحيطه حب جارف لم نستطع منه فكاكاً. وصلنا نيالا، كانت كالعروس التي أكملت زينتها وبهائها لليلة زفافها، وسط حضور كثيف قوامه الشركات ورجال الأعمال بدأت إنطلاقه المعرض التجاري الذي شرّفه الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل ممثلاً للنائب الأول الذي كان وقتها خارج البلاد، ووزير التجارة عثمان عمر الشريف، ووالي غرب دارفور حيدر جالوكوما، ووزير ماليته محمد عثمان هاشم، ووزير مالية شمال دارفور د. عبده داؤود سليمان والفريق الفاتح عروة، ورهط من الإقتصاديين وضيوف الولاية من الاعلاميين ووفود الولايات المجاورة وغيرهم. في إستاد نيالا بدأت وقائع التظاهرة الإقتصادية الكبرى، فأول أسباب النجاح الذي تحقق كان في قدرة قادة الولاية وبراعتهم في دقة التنظيم وأساليب العرض وجمع الحشود التي تنادت من الفجاج الواسعة لتسهم في رسم لوحات النجاح التي أصابها معرض نيالا التجاري الإستثماري طوال أيامه السبعة. لم تكن أيام المعرض كلها يغلب عليها النشاط التجاري الذي يخضع لعوامل الربح والخسارة، إنطلقت النشاطات المصاحبة جنباً الى جنب التبضع وأنواع التسوق، فكانت الندوات الاقتصادية والملتقيات الإعلامية منها ذاك الذي عقد بفندق كورال آخر ما أصابته نيالا في مجال المعمار الفخيم، أبدى المتحدثون فيه جملة من الملاحظات ورسموا خارطة واضحة تمضي على هديها أجهزة الإعلام لدعم مسيرة العمل الإستثماري الذي جعلته الولاية ضمن بنود أجندتها المهمة، جاء التقييم لإصدارة الولاية الأولى في مجال الإعلام المكتوب (نيالا البحير) التي تولى أمرها نخبة من الصحافيين محمد أحمد عبد القادر، الحسين إسماعيل أبوجنة، محمود الشين، علي منصور حسب الله، عز الدين دهب، عبدالله اسماعيل والمصور البارع أحمد بيضة وغيرهم من زمرة الكتاب والإداريين. ٭ الى بليل خلال أيام المعرض المحضور مضينا في ركاب الوزير النشط عبدالرحيم عمر حسن بلال مفوض الإستثمار لزيارة محلية بليل شرق نيالا، كنّا مجموعة من الإعلاميين نزلنا ضيوفاً على معتمد المحلية الأستاذ يعقوب مرسال تقل وأركان حربه، طفنا المزارع، وعرجنا على القشارات، ووقفنا على مشروعات التنمية التي زينت وجه المحلية، أكلنا (المناصيص والمرّين)، وقبل أن تاذن الشمس بالمغيب خرجنا من المحلية الآمنة تأخذنا الدهشة وتسيطر علينا عوامل الاستغراب وألسنتنا تلوك ممجوج العبارات التي ما فتئ يطلقها مرجفو المدينة بوصف نيالا بالتفلت وعدم الأمان. ٭ (الباشكاتب وبس) الحياة في مدينة نيالا تبدو أكثر من عادية في المدارس والأسواق وسائر أوجه الحياة الأخرى والدليل على ذلك ممارسة الناس شؤون حياتهم بشكل طبيعي لا يوحي أبداً بزيادة مساحات التوجس والخوف داخل مدينة سهرت حتى الصباح على أنغام الطرب والشدو الجميل، يوم أن اعتلى منصة إبداعها محمد خضر بشير، فهيمة عبدالله، فرقة الهيلاهوب، عمر إحساس، خالد الصحافة، وكان مسك الختام الموسيقار محمد الأمين الذي وجد في نيالا وجمهورها ضالته المنشودة، فكانت واحدة من بواعث إبداعه التي ألهمته خيوط التفرد لينسجها في (الليلة ديك) وشاحاً زاهياً يتوج الهامات في ليلة علقت تفاصيلها المدهشة بأهداب الذاكرة لن يجرؤ الزمن على مسحها مهما تعاقبت الأيام والسنوات. بعد أيام المعرض وفي طريق العودة من مطار الخرطوم كان رفيق رحلتي الموسيقار ود الأمين سألته عن إنطباعه بعد عودته لتوه من نيالا التي ربما يكون قد زارها مرات ومرات، فكانت دهشتي عندما أخبرني أنها المرة الأولى التي يزور فيها نيالا خلال مشواره الحافل الطويل، دخلها لأول مرة ولكنه أدرك حسب قوله أنه وقف ليواجه جمهوراً واعياً وحصيفاً يطرب للكلمة الشفيفة، ويهفو للنغم الحالم الجميل، أثناء الطريق همس الباشكاتب في أذني عن مكنون أمنيته وصادق رغبته أن يعود أدراجه للوراء ليمكث بعضاً من الأيام في أم المداين وعروس الولايات، يحط عن كاهله رهق الخرطوم وزحامها الشديد في مدينة تملكه حبها وجرى في أوردته وشرايينه مجرى الدم، ماذا عساني أن أفعل إخواتي الكرام سعادة الوالي والمفوض الهمام غير أن أضع بين أيديكم ما تمناه الموسيقار الكبير، حققوا له أمنيته؟ وأعيدوه على جناح السرعة الى نيالا، التي أراها قد تمددت في دواخله ولامست شغاف قلبه وسيطرت على مكامن الإعجاب فيه، أفعلوها ولن تندموا أبداً.. طبعاً نحن معاه ولسان حالنا يقول (الحجل بالرجل يا باشكاتب سوقنا معاك). ٭ بيت الكرم والجود. (معرفة الرجال كنز)، هذه المقولة أحسستها صدقاً وقولاً وعملاً وفعلاً منذ لقائنا الأول بالحاج أحمد عبدالرحمن بيضة قبل أكثر من عشرين عاماً، شيخ المصورين بنيالا تجبرك العلاقة معه على التقدير ورفع قبعات الإحترام وفاءً له، فالرجل تميزت حياته كلها بالصدق والوفاء وحسن الإخاء، ما من أحد تعرّف عليه في كل الظروف والأحوال، إلا وجده أخو الأخوان الذي لا يمكنك أن تمله أو تفارقه، قبل أكثر من عشرة أعوام كنت رفيقه من نيالا الى الديار المقدسة لأداء العمرة، نزلنا ضيوفاً على صديقنا الأستاذ عبدالله الربيع وأسرته بمدينة جدة، فكانت الفرصة مؤاتية لسبر أغواره، ومعرفة الكثير من جوانبه المشرقة الخفية التي أحاطت بسيرته، فجعلت اسمه تجري سيرته على كل لسان، فقد إجتمعت فيه فوائد السفر الخمس، خلال فعاليات المعرض خطفنا الأرجل كالعادة لنحتمي بظله الظليل ضيوفاً على مائدة إفطاره العامرة، كانت جلسة ما منظور مثيله، جمعت الإعلاميين بثلة من الأخيار، السلطان سعد بحر الدين سلطان عموم دار مساليت، ووكيله تاج الدين والشيخ عثمان عبدالله أبو سكين وجيرانه وأصهاره وغيرهم من ضيوف الدار الوسيعة. بيضة يا ريحانة المجالس بارك الله لك في أيام العمر، وحفظ لك مالك وأولادك من كل سوء وجعلك كما نريد لك، نوراً باهراً ومنارة تهدي الآخرين معاني الكرم والشهامة والنخوة والمرؤة يا جميل الخصال والصفات. ٭ (التحية لهم) رغم قناعتي الراسخة أن الهمة العالية والكرم الفياض من الصفات التي تعمقت جذورها بين أهل دارفور الذين عرفوا بالتسابق والمبالغة في إكرام الضيف بشكل يجعلك تقتنع بأنهم أبناء عم لحاتم الطائي لزم، مناسبة الكلام، ما ظللنا ندركه ونلمسه كلما زرنا نيالا في مناسبة من المناسبات، فكل ضيف يحل للإقامة في استراحة الولاية يدرك من الوهلة الأولى التفاني والإخلاص والدقة وسرعة الاستجابة والتنفيذ التي ما فتئ يظهرها العاملون في مجالات الضيافة يقضون اليوم بنهاره وليله لبذل الراحة وأسبابها لضيوف الولاية من خلال الخدمات الراقية التي إعتادوا على تقديمها بنفوس راضية، ووجوه باسمة وخاطر مشروح تبعد عن الزائر رهق السفر وطول المسافة، التحية لطواقم الضيافة باستراحة الولاية نخص منهم محمود عثمان عيد السعيد ومحمد صالح عبدالله (أبودوشو) وآدم علي عبدالرحمن وعبدالرحيم محمد عثمان، وعماد وغيرهم من العاملين والعاملات. ٭ خاتمة انتهت أيام المعرض، انفض السامر وتفرقت بالناس ، فخرجنا بانطباع واحد مفاده تعافي مدينة نيالا وتحررها جملة مما علق بها من الاراجيف والأقوال، فبانت للعيان قدرتها على صياغة التفوق والنجاح وصنع المعجزات، هنيئاً للوالي حماد إسماعيل قائد الفرقة ولوزيره عبدالرحيم عمر حسن بلال المايسترو النشط وللأستاذ عبداللطيف علي إبراهيم صاحب مركز التطوير المميز ولبقية الأعضاء والأعيان ورجال المال والأعمال الذين عزفوا ألحان التفوق والإبهار بشكل يوحي بالتناغم والإنسجام. الشوق الى نيالا يزداد، يورثنا البعد عنها غصة في الحلق ونيران تتأجج في سويداء الفؤاد، فلا غصة الحلق تزول ولا نيران القلب تخمد وتموت إلا بلقاء الأهل والأحباب من جديد.