الثقافة الغربية بصفة عامة والادب الانجليزي الشعبي علي وجه الخصوص يزخر بكثير من الحكاوي الصاخرة والشيقة والممتعة في الوقت ذاته التي تضع الاصبع علي الالم وتعالج كثير من الانحرافات بإيماءتها ورمزياتها العميقة والمعبرة بصدق عن الحياة الانسانية وبيئتها التي تدور بإنتظام وترتيب يخلو في كثير من الاوقات من مظاهر الفوضي والصخب وبعض ما يعتري حياة غيرها لكثير من الشعوب. ومن ضخرية ما يحكي أن ملكاً عادلاً حكيماً، العدل عنده اساس الحكم، لا يخشي في الحق لومة لائم، كان يختار وزرائه علي قيم الصدق والامانة، بعد فحص وتمحيص شديدين ويحذرهم بشدة من أن كل شي عنده قد يهون إلا السرقة ومن يقترف وزرها، ذنبه عظيم وسيري منه الويل والسبور وعظم الامور، وعلي نهجه هذا توالت الايام والسنون والناس في كنفه لا يلهجون إلا بشكره وجزيل ثنائه. وفي غفلة صدأت فيها الذاكرة ونست عظم المحاذير وشدة العقاب، استفذ الطمع احد وزرائه وسولت له نفسه وظن أنه خافي عن عين رقابة الملك فسرق ثم سرق حتي أصبح سارقاً وإستأمن فعلته فكشفه قبحها، فوقع متلبساً في يديي الملك، لم يذكر له الملك شناعة ما اقترفه، بل ذكره بما قطعه علي نفسه بأنه لا عفو عنده أبداً لسارق استغفل الناس وأمتدت يده لتنال ما لا تستحق. جاء الناس ليروا كيف يعاقب هذا السارق وبأي بطريقة يقتل، شنقاً، رمياً بالرصاص، يوثق ثم يلقي في النهر، انهم علي شوق ليروا ويري غيرهم العبرة، وبينما هم في انتظار وترقب اخيراً جيئ بالسارق امام الملك موثق اليدين الي ظهره مطأطأ الرأس محمر العينين جاف الشفتين مثقل الخطي يدفعه حراس الملك دفعاً وكأن علي وجهه قناع البرزخ تداخل لحظات آخر الحياة وأول الموت، وفي دائرة تشكل الناس جلوساً حولها في صمت يتوسطهم الملك، دُفع بالسارق ليقف امام منصة العدالة، نظر إليه الملك طويلاً في غضب شد أعصاب منتظري النطق بالحكم، وفي لحظة حاسمة أمر بقتله، هذا ما يعلمه الجميع إلا إنه كيف قطع الملك دهشتهم وإسترسل في نطق الحكم، فأمر بأن يجرد من ملابسه ثم يربط واقفاً علي عمود وتوثق يداه افقياً علي عمود آخر يتقاطع مع الاول راسياً علي شاكلة الصليب في مستنقع مُشجر قزر ملئ بالحشرات ويترك غذءاً للباعوض حتي يقضي، نُفذ ما أمر به الملك وترك السارق يواجه ألم الموت البطئ. وبعد بضعة أيام من ذاك الحكم، وبينما ايقن الجميع أن السارق مات وأرتوي الباعوض من دمه، ارسل الملك أحد مقربيه ليري ما الذي جري له بالمستنقع المُشجر، وجد رسول الملك جسم السارق يرشح دماً وتغطيه جموع الباعوض وقد أرتوت، وسكت من مغالبة الالم، رق قلب الرسول لحاله ومن وراء مليكه بدأ يزيل بيده جموع الباعوض من علي جمسه حتي يخفف عنه بعض ما يعانيه، إلا أن ما هاله ترجاه السارق أن لا يفعل ذلك ويدع ما علي جسمه من باعوض علي حاله، بهت رسول الملك وسأله لماذا وكل ما أردته التخفيف عنك ومن وراء مليكي، ما الذي يدعك تترك نفسك لهذه اللزعات المؤلمة،؟ فرد عليه بصوت ضعيف متقطع يكاد لايسمع إلا بالكاد، اذا ما أزلت هذا من جسمي وقد شبع، يأتي غيره جائع ويكون أكثر ايلاماً ونهماً في إمتصاص ما تبقي من دمي، دعه وأذهب لحالك. هز الموقف الرسول هزاً، فعاد لمليكه معترفاً بما فعله من ورائه، وقص له ما دار بينه والسارق، هرع الملك واقفاً بعد ما سمع ما وقع بين رسوله والسارق وقال بصوت ملئه الاستدراك والحيرة أنها رسالة لنأخذ بها ونترك من سرق وشبع وإكتفي، ولا نأتي بغيره جائعاً يمتص دم الشعب،ثم هتف مستنكراً لا..لا..لن تنطلي علينا هذه..اقتلوه أجهزوا عليه اضربوه بالسيف....وبعد هذا، نحن في الحقيقة بحاجة لعقاب إلا أنه ايهما انجع عقاباً الباعوض اما السيف اما الاخذ برسالة السارق.