العدل والمساواة: المشتركة قدمت أرتال من الشهداء والجرحى والمصابين    مواعيد مباريات كأس العالم الأندية اليوم السبت 21 يونيو 2025    يا د. كامل إدريس: ليست هذه مهمتك، وما هكذا تُبنى حكومات الإنقاذ الوطني    بحث علمي محايد    عضو المجلس السيادي د.نوارة أبو محمد محمد طاهر تلتقي رئيس الوزراء    "وثائقي" صادم يكشف تورط الجيش في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين (فيديو)    السودان.. وفد يصل استاد الهلال في أمدرمان    الجيش السوداني يعلّق على الهجوم الكبير    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    إيران تغرق إسرائيل بالصواريخ من الشمال إلى الجنوب    كامل إدريس وبيع "الحبال بلا بقر"    "الكنابي": تهجير المواطنين بإزالة السكن العشوائي في الجزيرة والخرطوم تطور خطير    إنريكي: بوتافوجو يستحق الفوز بسبب ما فعله    "كاف" يعلن عن موعد جديد لانطلاق بطولتي دوري أبطال إفريقيا وكأس الاتحاد الإفريقي    عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام مع جعفر نميري.. أسرار ومواقف«1»
قصتي وقصة آخرين مع مايو من البداية للنهاية.. نميري قاد الحملة ضد الاخوان المسلمين.. ولهذا السبب كان قراري بالهجرة معركة ضارية بسبب كردفان الغرة.. ومن هنا بدأت خيوط النهاية لمايو
نشر في الوطن يوم 25 - 05 - 2013

فكرت في اصدار الطبعة الثالثة من كتابي (أيام مع جعفر نميري.. أسرار ومواقف) في ذكرى هذا اليوم الخامس والعشرين من مايو.. وهو اليوم الذي تحرك فيه العقيد جعفر محمد نميري من خور عمر يقود الضباط الاحرار للاستيلاء على السلطة، ومن ورائهم الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يريد أن يمزِّق بذاك الانقلاب ورقة الدستور الإسلامي إلى الأبد، وكنت أقدر أن يكون اليوم هو يوم تدشين هذه الطبعة الثالثة، إلا أن الله تعالى قدر غير ذلك، بتوالى أحداث خاصة حالت دون تحقيق هذه الرغبة، فرأيت أن اقلب في صفحات هذا الكتاب مع القراء في هذه المساحة، بهذه المناسبة إلى أن ترى طبعته الثالثة النور قريباً بإذن الله تعالى.
ووجدت في باب الكتاب الأول الذي يحمل عنوان (أيام قبل الأيام) استعراضاً معقولاً لتاريخ علاقاتي وعلاقات كثير من القوى السياسية والرجال مع مايو، فلعل بنشره يتحقق بعض المطلوب، ولهذا انقله هنا كاملاً.
أيام قبل الأيام.
فجر الخامس والعشرين من مايو 9691م، لم تكن شخصيتي السياسية قد نضجت بعد، ولكنني كنت بالأصل والتاريخ والجذور انصارياً، وكنت جناح السيد الصادق المهدي، وبالطبع هذا الانتماء لم يكن مسنوداً بفكر ولا رأي، ولكن في الأنصارية كانت تتجسد أمجاد الأجداد، وفي السيد الصادق تطلعات الشباب وطموحاته.
ولأن ارتباطنا بالسيد الصادق وبحزب الأمة لم يكن قد نضج بعد، فعندما تحركت مجموعة مايو من خور عمر، كانت فتنتنا بشباب القادة الجدد أكثر منها بفكرهم وبرنامجهم السياسي، وكان للزي (الميري) في ذلك الوقت سحر عجيب لقلوب الشيب والشباب معاً ،وكنا جميعاً نتطلع الى دخول الكلية الحربية، بل أن البنات على ذاك العهد وفي مناطقنا الريفية على وجه الدقة كن يستهويهن العسكري أبوريشة أكثر مما يستهويهن الدكتور، وذلك لأن السلطة والقوة كانت تتجسد في الدياشي (الجندي) بينما الدكتور في نظرهن ليس إلا (التمرجي) الممرض ..ومع أيام مايو الأولى تفجرت لجان تطوير الريف وتفجرت فيها طاقاتنا وتفجرنا بها وجاءت من بعدها الكتائب ثم جاء رحلات الرئيس نميري وصحبه لكل أقاليم السودان على عكس رحلات الساسة والزعماء قبلهم. التحم بالجماهير والتحمت به وكنا نراه أسداً على الأرض ونمراً على ظهر السيارة ،يقفز هنا وهناك بهمة ونشاط وحيوية، وكانت لأناشيد مايو الأولى التي صاغها الحزب الشيوعي السوداني دوراً كبيراً في ارتباطنا كشباب بالنظام الجديد. وكانت تعبر عما بداخلنا وتخاطب وجداننا. وتقود معركة الحديث ضد القديم في نفوسنا.
ياحارسنا وفارسنا يابيتنا ومدارسنا
لينا زمن نفتش ليك وجيتنا الليلة كايسنا
****
حبابك ما غريب الدار وماك لي حقنا الوداد
جبت الموية للعطشان وجبت اللقمة للجيعان
****
أنت يامايو الخلاص يا جداراً من رصاص
يا حبالاً للقصاص
من عدو الشعب في كل مكان
فظل ارتباطنا بالرجل والثورة وبأدب الثورة؛ حتى جاءت أحداث الجزيرة أبا، وودنوباوي وحتى هذه لم تزدنا الا ارتباطاً به، فبالرغم من أن ضرب (أبا) و (ودنوباوي) (كان ضرباً للاهل والتاريخ والأمجاد إلا أن إعلام الثورة آنذاك استطاع أن يصور لنا الإمام الهادي وصحبه من الأنصار في صورة مجموعة من الدجالين، وما زالت ذاكرة الشعب تختزن الصور الفاضحة التي نقلها الاعلام من داخل الجزيرة أبا.. ولم نكن نعلم لحظتها أنها «مفبركة» واقنعونا أن الإمام -عليه رحمة الله- كان يعاقر الخمر ويعاشر النساء ويرقص ويلهو فازددنا بعداً عنه وعن التاريخ والجذور. وازددنا ارتباطاً بمايو وبالزعيم الشاب.
وفي التاسع عشر من مايو 1791م وعندما استولى الشيوعيون على السلطة ملأت الأحاديث والحكاوي أطراف المدينة.. الكافرون استولوا على السلطة .. المساجد تتحول إلى مراقص ومواخير والكنائس إلى ملاهي.. والآذان سينقطع صوته في السودان.. والرذيلة تشاع في الأسواق فامتلأت النفوس ثورة، وانفجر البركان في الثاني والعشرين من نفس الشهر لذات العام، فنزلنا في ذاك اليوم جيش وشعب ندافع عن مايو وعن قائد مايو، وعاد الرجل وعاد ارتباطنا به أكثر من ذي قبل.
بعد يوليو 1791م، ارتبطت بحركة (الأخوان الجمهوريون) جماعة محمود محمد طه، وكانت الجماعة في خط النظام، فصرنا أكثر التصاقاً بمايو وأشد تعلقاً بالرجل.
وعلى أيام حركة المرحوم المقدم حسن حسين في سبتمبر 5791م، كانت قناعتي بالفكر الجمهوري قد بدأت في الاهتزاز، وكنت قد بدأت في مواجهة مع نفسي ومع الفكر، وعندما حدثت مواجهة المقدم حسن حسين لنظام مايو واجهضت حركته واعدم على اثر ذلك، تحركت في نفوسنا نحن ابناء الغرب على وجه العموم.. وأبناء الهواري على وجه الخصوص.. وهو نسب يجمع بين والدتي والمقدم حسن حسين تحركت في نفوسنا نوازع العنصر والدم وكان لجدتنا المرحومة (هجرة) دور كبير في ذلك، فهي قد حملت كل أبناء (الجلابة الهواري) دم ابن المأمور حسين وصارت تتغنى بذلك في أشعارها الليل بالنهار. فدم الشهيد ابعدنا عن مايو واهتزاز الفكر الجمهوري قربنا إلى حركة الأخوان المسلمين.
وفي يوليو 6791م ،وعندما اختلط دم الأخوان المسلمين بدم الانصار واختلط ذلك بدم (ابن المأمور) الذي كنت احمله ديناً على عاتقي واختلط كل ذلك بأدب الاخوان المسلمين في الجهاد والشهادة صار عداؤنا لمايو عداء صدام وثار ومواجهة.
وعندما حدثت المصالحة الوطنية في 7791م لم نكن قادرين على استيعابها بادئ الأمر، ولكننا سرعان ما تجاوزنا ذلك. ولقد كان لقادة حركة الأخوان دور كبير في هذا، لاسيما الدكتور حسن الترابي.. وكنت دائم الصلة به، واستيقنت بعد ذلك أن جو المصالحة هو خير مناخ لنمو العمل الاسلامي ،ولقد اتاح لنا جو المصالحة والمشاركة في مايو فرصة لم نكن لنجدها لولا تلك الظروف، ولقد كان لنظام مايو خطى ايجابية في ذلك وكانت تؤكد لنا مصداقية التوجه على أقل تقدير لدى الرئيس نميري، وما زالت في الذاكرة ذكريات المعسكر التبشيري الذي شاركت فيه بدعوة من طلاب جامعة الامام محمد بن سعود في منطقة جبال النوبة في عام 9791م ولقد وجد ذاك المعسكر دعماً كبيراً من النظام ورعاة بصفة شخصية النائب الأول لرئيس الجمهورية وكان وقتها يشغل هذا المنصب الفريق أول عبدالماجد حامد خليل.
فجئنا لمايو بهمة وصدق من أجل السودان، ومن أجل تحكيم الشريعة الاسلامية وانخرطنا في أجهزة النظام الشعبية والسياسية وعملت بصحف مايو ابشر مع المبشرين بفجر عهد جديد.
وفي سبتمبر 3891م ،وعندما أعلن الرئيس نميري القوانين الاسلامية.. كان هذا وفاء لعهد قطعه على نفسه وعلى الثورة وكان التوجيه صريحاً لنا من قبل التنظيم بدعم النظام والدفاع عنه فدافعنا دفاعاً مستميتاً وقاتلنا قتالاً شرساً.
لم يكن قتالنا في مايو ضد أعداء النظام فقط ،ولكن كان علينا أن نقاتل في جبهات عديدة نقاتل ضد اعداء النظام، ثم قتال ضد اعداء توجه النظام الاسلامي، وقتال آخر ضد أعدائنا التاريخيون داخل النظام.
ورغم ذلك، كانت جسوري ممتدة مع كل الفصائل داخل النظام المعادية والمفترض فيها العداء ولم يكن امتداد جسوري معهم مهادنة او مغازلة، ولكنها قناعة عندي بأن الود الصادق هو الجدار الذي تتحطم عنده كل خصومه، ثم أنه قناعة أخرى بأن السودان وطن تعايش ومحبة رغم الاختلاف. فكانت صلتي بالجميع وكانت محبتي للجميع.
وفي أكتوبر 4891م، نزلت (كردفان) عريساً (وكردفان) هي أرض الأهل والصبا ومراتع الطفولة وكانت تلك أول رحلة لرفيقتي إلى ديار كردفان (الغراء أم خيراً بره) وكان أملي أن يلتقينا خيرها قبل أهلها.. ولكن كان مظهر الاستقبال غريباً.
جموع للنازحين من القرى إلى أطراف مدينة أم روابة في غير أوان، ونزوحهم وكان المتسولون يلتقونك على أشراف المدينة ويلاحقونك حتى الديار وكانوا يطلبون الطعام لا المال، فكان المشهد محبطاً وكانت الفاجعة أليمة، فعدت الى الخرطوم وفي ذهني تلك الذكريات المريرة، فلم افكر في جذور المشكلة ولا في مداخل حلها ،ولم يكن الزمن يسعفني لذلك، ولم تكن نفسي قد تهيأت له بعد.
فكتبت خواطر مشتته على باب اليوميات بالأيام عن رحلتي (لكردفان) بعد غيبة عام ،وكان طابعها الحزن والاحباط ولم تمر ساعات محدودة على نشر المقال حتى رن تليفون الجريدة يطلبني ولسوء الحظ كنت موجوداً لحظتها ..رغم أني غير كثير التواجد بمبنى (الأيام) وبالرغم من أن المتحدث كان جنساً لطيفاً، لكنه لم يكن معي لطيفاً فملأني سباً وشتماً برغم أنني قد اسأت ألي كردفان.. وأهلها وحكومتها، حاولت أن ألطف الجو وأطيب من خاطرها، ولكن يبدو أن النيران التي اشتعلت في دواخلها كانت اكبر من أن تطفئها كلماتي المعسولة فانهيت المكالمة بأدب شديد حتى لا انساق خلفها في درب الانفعال.
وفي اليوم التالي جاءني أحد الأصدقاء وهو كذلك من أبناء (كردفان) وأخبرني أن السيد الحاكم غاضب مني كثيراً بسبب مقالي عن مأساة أهل كردفان.. وكان لحظتها يحكم كردفان السيد الفريق الفاتح بشارة- عليه رحمة الله تعالى-.. وطلب مني الزميل أن اذهب إلى الحاكم واعتذر له. فقلت له أنا لم اخطى في حق الاقليم ولا في حق أهله ولاحكومته.. ولم يكن ذلك المقال سوى خواطر حزينة عن أهل وأقليم ضربته ظروف الجفاف.. وهو ليس إلا مواساة العاجز.
اعتقد الحاكم ان عزوفي عن المجيء للاعتذار تحد له ولحكومته فاجتمع بأبناء كردفان بالخرطوم لاسيما العاملين في مجال الصحافة والاعلام، وحدثهم عن العملاء والمأجورين من أبناء الاقليم الذين انزلقوا في أوحال العمالة والارتزاق وصاروا يشتمون الاقليم وأهله، ثم ركز هجومه على مقالتي الحزينة تلك وكان عنوانها (وتوالت الأحداث عاصفة) وقال لهم إن جمال عنقرة هذا سوف اعصف به، واكسر عنقرته.. لم يكتف الحاكم بهذا القدر من التهديد، بل طاف الاقليم طولاً وعرضاً يملأ مجالسه العامة والخاصة شتماً وسباً للعملاء والمأجورين، وكنت على رأس هؤلاء المعنيين بالأمر، فشعرت أن المسألة صارت تحد ومواجهة، فكتبت مقالاً ثان وثالث عن الكارثة التي تهدد الاقليم.
وفي ذات الوقت نشبت مواجهة أخرى بين الحاكم وبين الأستاذ أحمد ابراهيم الطاهر المحامي وكان لحظتها مستشاراً لحكومة كردفان ونائباً عاماً للاقليم، فاشتاط الحاكم غضباً وظن أن المسألة مدبرة وبدأ يدبر للانتقام منا، وكنت مع الأخ احمد ابراهيم تجمع بيننا عضوية حركة الاخوان المسلمين.
حذرني كثير من الاخوة من عداء الحاكم وقال لي بعضهم إن خصومة الفاتح بشارة قاتلة.. وطلبوا مني الاعتذار له، ولما لم اكن قادراً على رفع الراية البيضاء قررت الانسحاب المؤقت عن ارض المعركة لعل في تلك الفترة ينطفئ لهيب الغضب في جوف الحاكم فاخترت الأراضي المقدسة لاداء العمرة، والسؤال لأهلي الفرج ولنفسي والحاكم الهداية، ثم أعود.. وكان ذلك في يناير 5891م.
زاد سفري الحاكم اشتعالاً فاشفى جزءاً من غليله الأستاذ أحمد ابراهيم الطاهر واعتقله وازداد سبه وشتمه لنا وللمأجورين والعملاء وللأخوان المسلمين.
وفي ذلك الوقت حدثت مشكلة بين حكومة (كردفان) الاقليمية وبين احد التجار من الأخوان المسلمين وهو من أبناء المنطقة أيضاً في مسألة تتعلق بتوريد كميات من الذرة للاقليم فاستغلها السيد الفاتح بشارة استغلالاً جيداً، وعبأ السلطة والشارع ضد الأخوان المسلمين والبنوك الاسلامية وعلى وجه الخصوص بنك فيصل الاسلامي السوداني وحملة مسئولية اختفاء الذرة، وارتفاع اسعارها حتى أنه عرف في ذلك الوقت باسم (بنك العيش) أي (بنك الذرة).
لم يكن من الممكن أن أعود إلى السودان في تلك الظروف فطال بقائي بالمملكة العربية السعودية حتى جاء يوم العاشر من مارس 5891م، وفي ذاك اليوم ازداد الامر تعقيداً حيث دخل الرئيس نميري بنفسه قائداً للحرب ضد الأخوان المسلمين، فاعتقل كل القادة بالسودان والقى خطاباً ضافياً ملأة بالتشهير والتهديد والوعيد وحملهم والبنوك الاسلامية كل مشاكل السودان وطلب عدداً كبيراً للاعتقال وكنت ضمن المطلوبين.
وفي السادس والعشرين من نصف الشهر بدأت المظاهرات العامة ضد النظام وكانت أولها مظاهرة اتحاد طلاب جامعة (أم درمان الاسلامية) ثم بدأت المظاهرات تشتعل في كل مكان بالسودان.
وبالرغم من أن الأخوان المسلمين لم يشاركوا في المظاهرتين ضد السلطة مشاركة فاعلة إلا أن الرئيس نميري وأعوانه حملوهم كل ذلك، واعتقد أنهم كانوا يهيئون العالم لضربة قاضية للحركة الاسلامية في السودان، واذكر أن الأخ الزميل (البلديات) معاوية حسن يس قال لي :(إن نميري سوف يسقيكم - الاخوان المسلمين - من ذات الكأس الذي سقى منه الشوعيين من قبل فقلت له: (toolate ) فنميري عهده انتهى ولن يجد بعد ذلك فرصة للضرب ولم يعد قادراً على ذلك ولن يعود الى السودان.
قناعتي كانت تختلف عن قناعة التنظيم، فكان التنظيم يرى الا تشارك قواعد الحركة الاسلامية في المظاهرات ضد النظام حتى لايحسب عليها ذلك عندما تهدأ الأحوال، وكنت اعتقد الا سبيل لدينا سوى المواجهة، وكنا بالفعل قد بدأنا المشاركة في المواجهة من جدة عن طريق الصحافة وكان معي الأخ عبدالله التيجاني عثمان، وكان اتصالنا ونشرنا عبر (الشرق الأوسط) و(السياسة)الكويتية.. واذكر في يوم الخميس الرابع من ابريل 5891م جاءنا في جدة مندوب عن التنظيم من الخرطوم يحدثنا إن أخر تطورات الأحداث بالسودان موقف الحركة الاسلامية فيها وقال لنا إن منهج الجماعة (اذهبا إلى فرعون أنه طغى وقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى).
لم اقتنع بهذا المنهج ،وشاركني في الرفض الأخوة بابكر حنين ،وعبدالله التيجاني.. واذكر ان عبدالله التيجاني قال له انكم (تودوني أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ووقف ثلاثتنا على هذا الرأي الرافض للمهادنة، وكنا نرى أن المشاركة في مواجهة النظام لازمة لأمرين مهمين: أولهما (إن النظام لابد أن يسقط.. وثانيهما: (إن الانتفاضة لو انتصرت - وهي فعلاً في طريقها الى النصر - فإن لم نشارك فيها فسوف نعزل عن النظام القادم، وفي هذه الحالة سنتحمل مع نظام مايو كل اخطائه.. فتلك فرصة للانفلات واحسبها لن تتكرر.. ولما لم يكن لمندوب التنظيم من السودان فرصة لمخالفة رأي الخرطوم اخترنا الاعتزال وخرجت مع الأخ عبدالله التيجاني من الاجتماع.
وبعد يومين انتصرت وسقطت مايو وعادت الأحزاب إلى السودان وعدنا مع العائدين تمحور برنامج كل الأحزاب على إزالة آثار مايو وكان برنامج الازالة يحوي بين طياته ازالة موروث مايو في التشريع والتقنين، وهذا كان يعني الارتداد عن النظام الاسلامي وعودة العلمانية للحياة السياسية السودانية.
تكونت الجبهة الاسلامية القومية للدفاع عن الشريعة الاسلامية باعتبارها كسباً للشعب والثورة الاسلامية في السودان، وكانت تلك قناعتنا جميعاً فتخندق في خندق الجبهة كل الرافعين لراية الشريعة من خارج الأمة والاتحادي.. فهؤلاء كانوا مع الشريعة الا أن طرحهم كان مختلفاً، فهم كانوا مع الشريعة ،ولكنهم ضد شريعة نميري أو ما اسموه بقوانين «سبتمبر» كانوا يعتقدون أن تلك القوانين لابد أن تزال وتسن قوانين اسلامية جديدة، وكنا نعتقد أن للازالة مخاطر جسيمة وحواجز تحول دون اعادة التجريب مرة أخرى، وقبلنا التعديل لا التبديل. وصار شعارنا: لاتبديل لشرع الله.
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.