سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أيام مع جعفر نميري.. أسرار ومواقف«2» نميري لعب دوراً كبيراً في اسقاط الحزبية الثالثة وسيد أحمد خليفة ومحجوب عروة اسهما في ذلك..
محمد الحسن عبد الله يس، عبد الحميد صالح، ميرغني عبد الرحمن ، الباقر أحمد عبد الله، محيي الدين تيتاوي.. زاروه بدوافع مختلفة
فكرت في اصدار الطبعة الثالثة من كتابي (أيام مع جعفر نميري.. أسرار ومواقف) في ذكرى هذا اليوم الخامس والعشرين من مايو.. وهو اليوم الذي تحرك فيه العقيد جعفر محمد نميري من خور عمر يقود الضباط الاحرار للاستيلاء على السلطة، ومن ورائهم الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يريد أن يمزِّق بذاك الانقلاب ورقة الدستور الإسلامي إلى الأبد، وكنت أقدر أن يكون اليوم هو يوم تدشين هذه الطبعة الثالثة، إلا أن الله تعالى قدر غير ذلك، بتوالى أحداث خاصة حالت دون تحقيق هذه الرغبة، فرأيت أن اقلب في صفحات هذا الكتاب مع القراء في هذه المساحة، بهذه المناسبة إلى أن ترى طبعته الثالثة النور قريباً بإذن الله تعالى. ووجدت في باب الكتاب الأول الذي يحمل عنوان (أيام قبل الأيام) استعراضاً معقولاً لتاريخ علاقاتي وعلاقات كثير من القوى السياسية والرجال مع مايو، فلعل بنشره يتحقق بعض المطلوب، ولهذا انقله هنا كاملاً. لقد كانت حركة المطالبة بالالغاء تسير دون وعي وبانفعال شديد واغلبه كان نتيجة احقاد ومواقف أكثر منه أفكار ومبادئ.. واذكر أنني جلست يوماً اتحاور مع الأستاذ علي محمود حسنين رئيس الحزب الوطني الاتحادي المنشق عن الحزب الاتحادي الديمقراطي وكان حوارنا حول مسألة الشريعة الاسلامية فقال لي : إنه ليس ضد الشريعة ،لكنه ضد شريعة نميري.. لانها ليست شريعة ؛لأن النظام الذي اتى بها لم يكن شرعياً، وعلى هذا فان كل ما اصدره نظام مايو يعتبر في نظره غير شرعي وضرب مثالاً بقانون المرور الذي قضى بتحويل مسار الحركة من الشمال الى اليمين، يعتقد كذلك انه غير شرعي ولابد من الغائه ثم إصدار قانون آخر في نفس اللحظة وبنفس المضمون ليكتسب القرار الشرعية المطلوبة.. امتعضت جداً من ذلك الرأي، وكان مثله كثيراً واعتقد أن ذلك استهتاراً بتاريخ شعب وأمة ،فكتبت مقالاً في جريدة (الأيام) السودانية اسميته (الالغاء الثوري) وكانت ابريل ما زالت في اسبوعها الثاني لقد كان المقال نشاذاً بمعايير ذلك الوقت، ففي حين الصحافة والاعلام المسموع والمرئي تنادي بكنس اثار مايو.. سخرت من هذه الدعوة صراحة وقلت لهم إن اردتم الكنس فاكنسوا قاعة الصداقة ومجلس الشعب وقصر الشباب والأطفال وقصر الصداقة ومصنع سكر كنانة، وانسفوا كوبري كوستي، وحنتوب، واقتلعوا طريق بورتسودانكسلا مدني.. وطريق نيالا كاس زالنجي.. وغيرهما كثير.. وقلت لهم في ذلك المقال: ان كنس آثار مايو لايعني تغيير لوحة حجر الأساس أو اسم المؤسسة ،وتساءلت ساخراً عن مصير (مايو) الشهر في السنة و (مايو) الذرة في سوق المحصولات.. وتساءلت عن النياشين والرتب العسكرية التي منحتها مايو للضباط والجنود لاسيما أعضاء المجلس العسكري الحاكم انذاك.. ثم تساءلت عن الشهادات المدرسية التي منحتها سلطة مايو لطلاب من أبناء الشعب هل هي سارية المفعول أم أنها ستلغي؟ وإن أُلغيت فما هو مصير حامليها ..؟هل سنعتبرهم أميين.. أم أننا سوف نصدر لهم شهادات ثورية جديدة بتوقيع وتاريخ جديد.. ثم تساءلت أيضاً عن الزيجات التي تمت في مايو وبمأذونين مايويين ووثقت لدى سلطات مايو.. هل هذه الزيجات شرعية أم فاسدة..؟ وإن كانت فاسدة فما حكم الأبناء الذين نتجوا عنها ..هل سنعتبرهم أبناء غير شرعيين أم سنعتبرهم من أهل الفترة أم من أهل الأعراف؟ ثم سألت عن كثير من كثير دون مجيب... انقضت الفترة الانتقالية واقيمت الانتخابات في موعدها المحدد وبدأت الحكومات تتشكل وتتعدد.. ائتلافية بأجنحة وقيادات أخرى، ثم قومية، ثم ائتلافية، بشكل آخر ثم وحدة وطنية، وهلم جرا... خلال حكومات السيد الصادق المهدي المختلفة وخلال الصراع الحزبي الطاحن حول مقاعد الحكم وتحقيق المصالح الذاتية ضاعت كثير من قضايا الوطن والمواطن في السودان، وازدادت حرب الجنوب اشتعالاً وأصبحت مسألة الشريعة الاسلامية سلعة للمتاجرة، فايقنت لحظتها أن النظام الليبرالي الغربي بذلك الشكل لايمكن أن يحقق استقراراً للسودان.. فالأحزاب وجدت نفسها في مواجهة مع الحكم وقضايا الوطن الشائكة دون أن تعد نفسها لذلك، فتشتت القوى الوطنية وتنازع الناس الولاء القبلي والطائفي والحزبي، وبدأت الصراعات بين القوى السياسية والحزبية تاخذ ابعاداً أخرى لم يعهدها المجتمع السياسي السوداني، وانفتحت أبواب عديدة للتدخلات الأجنبية والعربية.. وانتقل كثير من الصراع العربي والافريقي الى أرض السودان وصار الوطن الواحد أقرب إلى التمزق منه للوحدة. ساعتها، صار المخرج خيارآً واحد لاثاني له.. نظام يجمع بعد فرقة ويوحد بعد شتات.. وكان الخيار كياناً جامعاً يتداعى له كل أهل السودان من أجل السودان.. إنه نظام الكيان الواحد أو التنظيم الشامل.. فدائماً كنت أقول لاصدقائي ولغيرهم ..إن الناس لابد أن يفرقوا بين نظام الكيان الواحد.. والحزب الواحد ..فالحزب تتجمع عضويته حول فكرة واحدة وهدف واحد وبرنامج واحد ورأي واحد ومصالح واحدة ،اشترك فيها كل عضوية الحزب وهو لايتيح فرصة للاختلاف في داخله والاختلاف يحسم دائماً لمصلحة الحزب، ونظام الحزب الواحد يقوم على صفوة قليلة تحكم الغالبية وتتحكم فيها بقوة الحزب وسلطانه. أما الكيان الواحد فهو بناء جامع يلتقي عنده كل أهل المصر بمختلف انتماءاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية وفي داخله تكون الفرصة متاحة للجميع للتعبير عن ذواتهم دون حجر أو وصاية.. وهو عادة نظام يلائم المجتمعات الاقل نمواً والتي ترتفع فيها نسبة الأمية والتي تكون فيها عوامل الفرقة أكثر من عوامل التوحد ،وهو عادة نظام يلائم المجتمعات التي تنشد النهوض في أول طريقها. وتجربة الاتحاد الاشتراكي السوداني كان من الممكن أن تكون تجربة رائدة في ذلك، ولقد كان عيبها في التطبيق والمطبقون.. وليس في النظرية والمنظرين.. فسدنة الاتحاد الاشتراكي السوداني تحولوا به من تنظيم الى حزب.. وصارت المصالح هي التي تجمع الناس فيه، وليس المبادئ ..فابتعد عن الناس وابتعدوا عنه ،وصار المتحكمون فيه قلة تحكم الشعب بقوة السلطان فافسدوا التجربة وفسدوا بها، وهذه كانت على التجربة والتجريب وليست على النظرية والتنظير. وعند اختلال معادلة الحكم خلال الفترة الليبرالية الثالثة. وعندما تطلعنا الى حكم جامع صعدت تجربة الاتحاد الاشتراكي الى الأذهان ثانية، وكان صعودها بايجابيتها لابسلبياتها، بنظرياتها ولا بممارستها وصعد إلى الاذهان تلقاء اسم وشخص الرئيس جعفر نميري بتاريخه في قيادة الشعب السوداني موحداً وليس بنهاية مخلوعاً بالشعب السوداني متحداً. لقد كان بروز الرئيس نميري إلى سطح الأحداث عفوياً.. حتى أن بعضاً من عامة الناس كانوا عندما يضيق بهم الحال يخرجون إلى الشارع يهتفون (عائد عائد يانميري). وأما تعلقي بجعفر نميري في تلك الفترة لم يكن مثل عامة الناس ولم يكن كذلك مثلي على أيام مايو الأولى عقب الانتصار عام 9691م.. ففي الرجل تجسدت هذه المرة صورة القائد الموحد للأمة وفيه تجسدت التنمية والتعمير وفوق كل ذلك كنت أرى فيه الانجاز الأكيد لحركة الاسلام في السودان من خلال تجربة نظامه في تأصيل التشريعات والقوانين في السودان. لم تكن علاقتي بالمايويين قد فترت خلال فترة ما بعد ابريل. فأصدقاء الأمس ظلوا هم ذاتهم أصدقاء اليوم.. فقط تطور الحوار فيما بيننا بشأن قضايا الحكم في السودان وكنت أكثر تواصلاً بالصديقة آمال عباس العجب وبشيخنا الراحل مولانا الرشيد الطاهر بكر وبالأخ الصديق صلاح عبدالعال مبروك، وأستاذنا أحمد عبدالحليم وصديقنا الياس الأمين والصديق الريس عز الدين السيد وكان الاتصال من حين الى حين بالاخ الدكتور اسماعيل الحاج موسى والأخ المقدم محمد مدني توفيق. أما صديقنا عثمان مجذوب فكنا على اتصال دائم لاينقطع وكثير من كثير. كانت قناعتي أن نطرح مايو بديلاً وان ندافع عن صيغة التحالف باعبتارها الصيغة المثلى لحكم السودان ،وكان رأيي أن نلج الحلبة وأن نعرض وسط الزفة ،وحاولت أن أشرع في ذلك عملياً فبدأت الكتابة على صفحات جريدة (الغد) للأخ الزميل أسامة سيد عبدالعزيز وكانت كتاباتي نقداً واضحاً للنظام الليبرالي الغربي وطرحاً للنظام الوحدودي بديلاً له وكان اسم الكتابة والنشر (أبوخالد). لم يكن اختياري اسماً مستعاراً خشية المواجهة بقدر ما كان بداية للمواجهة و (خالد) هذا هو ابني الأكبر وبه اعرف بين أصدقائي وأهلي وزملائي وكان في تلك المرحلة تكفيني معرفة هؤلاء. وفي ذات الوقت كنت اجمع في مادة كتاب عن تاريخ الثورة السودانية بعنوان (حوار من أجل الثورة) حاولت من خلال أن اجعل للثورة تعريفاً يمكن أن نتفق عليه ثم ندون لها تاريخاً نستعرض من خلاله مسيرة الثورة باعتبار أن لكل فترة ثورة وثورة مضادة ونستخلص من خلاله نتيجة حتمية لحالنا آنذاك هل هو ثورة أم انتكاس. بعد أن فرغت من اعداد الكتاب واجهتني مشكلة طباعته ونشره تفاكرت مع الأخت آمال عباس في ذلك فاقترحت علي الاتصال بالرئيس نميري للمساعدة في ذلك.. راقت لي الفكرة كثيراً ووجدت فيها منافع جمة فهي دون غيرها الأسرع والأنجع ثم إنها تتيح لي فرصة الالتقاء بالريس والتحدث إليه والتفاكر معه حول الوضع السياسي بالسودان ورؤانا للعمل السياسي في المرحلة القادمة.. طرحت الأمر على الاخ الياس الأمين فوافقني على ذلك وشجع الرأي والفكرة وبدأت أعد نفسي للسفر وأعد لي الأخ الياس الأمين رسالة للريس نميري عن طريق ابن خاله وسكرتيره الخاص الواثق عبدالله صالح، فأخذت كتابي وكتاب الياس الأمين ونزلت أرض الكنانة وكان ذلك في الرابع والعشرين من ابريل 9891م. وفي أثناء اعداد الكتاب للطباعة والتوزيع اتفقنا مع الرئيس نميري على تصعيد مواجهة النظام الحزبي. واتخذني نميري مستشاراً سياسياً واعلامياً له، فقدنا حملة اعلامية شرسة واجرينا اتصالات سياسية فعالة مع كثير من القوى السياسية في البلاد وكان حتى الحاكمين يتصلون بالرئيس نميري في زياراتهم الى مصر وكذلك الاعلاميون والصحافيون وكان ذلك في خواتيم عهد الحزبية الثالثة التي اسقطتها الانقاذ الوطني ومن الذين زاروه في تلك الفترة المرحوم محمد الحسن عبدالله يس، والمرحوم الدكتور عبدالحميد صالح ميرغني،وعبدالرحمن الحاج سليمان، ودكتور الباقر أحمد عبدالله، ودكتور محي الدين تيتاوي.وكثيرون من الساسة الجنوبيين والعسكريين وكانوا جميعاً يتحدثون معه عن الاوضاع السياسية في البلاد ويركزون علي التدهور المريع في كل شيء، وكان بعضهم يتحدث عن انهيار النظام وبعض يتحدث عن الخيارات البديلة وكان كثيرون يضعون جعفر نميري على رأس قائمة الخيارات البديلة. الزيارتان الأشهر كانتا للأستاذين المرحوم سيد أحمد خليفة رئيس تحرير صحيفة الوطن ومحجوب عروة رئيس تحرير صحيفة السوداني وناشرها في ذلك الوقت، زيارة الأستاذ سيد أحمد خليفة رتبت لها فبعد أن نشرنا أحاديث عدة للرئيس نميري في صحف عربية كثيرة وكانت الصحافة السودانية تنقل عنها اقترحت على الأستاذ سيد أحمد خليفة، اجراء حوار مع نميري في مقر اقامته في مصر فوافق على ذلك، واستأذن السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء ورئيس حزب الأمة واتفق مع السيد المهدي على عرض مبادرة لنميري للعودة الى السودان على نسق المصالحة الوطنية التي نظمها المرحوم فتح الرحمن البشير وجاء سيد أحمد إلى القاهرة وأجرى الحوار الذي اشعل الساحة السياسية، وكان سيد أحمد قد اسماه حوار التسع ساعات وجاء في خطه العريض (جئنا لنحاكم الرجل فحاكمنا) وكال نميري في ذاك الحو ار الاتهامات لحكومة الأحزاب وتوعدها فاعتقل سيد أحمد بعد ذلك ولم يطلق سراحه إلا بعد مجيء الانقاذ. أما زيارة الأستاذ محجوب عروة فكانت بمبادرة شخصية منه بعد أن سمع آخر شريط للرئيس نميري في ذكرى مايو في العام 9891م، ورتبنا أيضاً حواراً صحفياً لمحجوب مع نميري نشر في (الوطن) وحملت الزيا رة أيضاً مبادرة لتنسيق بين نميري والأخوان المسلمين واعتقل محجوب ايضاً بعد الحوار واطلقت سراحه الانقاذ مع بقية المايويين الذين اعتقلوا بتهمة التدبير للانقلاب، وكان منهم الشهيد الزبير محمد صالح، والمرحوم العميد أحمد فضل الله قائد الانقلاب ولما نجح انقلاب الانقاذ كان نميري أسعد الناس به ،قبل أن يعرف هويته ،فكتبنا أول برقية تأييد للنظام الجديد وانطلق تأييد نميري أولاً من أن الانقلاب قامت به المؤسسة العسكرية وهو من المؤسسة العسكرية، ثم إنه قضى على حكومة الأحزاب التي كان يراها العدو الأول بالنسبة له، ثم إنه يئس من الحياة في مصر وكان يشبهها بالسجن ولقد أسر بعد ذلك للدكتور عبدالله سليمان العوض بهذا. وقال له: إن يفضل أن يعود إلى السودان ويعتقل في سجن كوبر على الحياة في قصر النصر بالقاهرة، ولقد جرت محاولات جادة لعودة نميري إلى السودان في الشهور الأولى للانقاذ.. وكنا نرتب لها معه على أن تكون دعماً للثورة في اتجاه توسيع دائرة الولاء لها داخلياً وخارجياً.. الا أن بعض أطراف النظام كانوا ينظرون إلى الجانب الأمني منها فقط فافشلوها وكان مماطلاتهم قد أصابت نميري بالإحباط فهاجم وانكشف مشروع العودة فتدخلت جهات إقليمية ودولية فأثنته عن ذلك، واقنعته أن النظام آئل للسقوط وأنه سيكون البديل الأوفر حظاً .. اقرأ غداً من ذاكرة الوطن جمال عنقرة يكتب: محمود محمد طه لم يعارض مايو سياسياً، وإعدامه كان دينياً وليس سياسياً . كثيرون أكلوا في قدح مايو بدون كرامة، وتبولوا فيه بلا حياء.