نضجت عقولنا وتفتحت سياسياً في آواخر حكم جعفر نميري الذي سمى بالفترة المايوية ووقتها كنا طلبه في جامعة القاهرة - فرع الخرطوم- التي كان فيها الحراك السياسي والندوات والأركان أكثر من الحراك الأكاديمي من محاضرات ومكتبات يتلقى منها الطلاب دروسهم. ثم جاءت الانتفاضة التي عصفت بمايو وأصبح (الرئيس القائد) لاجئاً ، وكانت الفترة الانتقالية بقيادة طيب الذكر عبدالرحمن سوار الذهب الذي كان حديثه ووعده وفترته الانتقالية من (ذهب) عيار «42» لأنه احترم وعده الذي قطعه للشعب بأنه سوف يسلم الحكم إلى حكومة منتخبة يختارها الشعب وقد كان. تكالبت الأحزاب بعد الانتخابات بصورة نهمة على السلطة بعد أن وضحت (الخرطة السياسية) التي كان فيها حزب الأمة حزب الأغلبية، وبعده الاتحادي الديمقراطي، ثم الجبهة القومية الإسلامية، وبقية (أحزاب الفكة) من شيوعي، وبعثي، وقومي. وكالعادة أصبحت السُلطة عبارة عن (قطعة لحم) الكل يريد أن يستأثر بأكبر حجم منها فتشكلت حكومات وانفضت أخرى، وأصبح مصير البلاد بيد (السيدين) الإمام الصادق المهدي ومولانا محمد عثمان الميرغني اللذان يلوحان بالسلطة على أحزاب المعارضة، لأنهم يملكون الأغلبية إلى أن وصلنا إلى مربع الخلاف بين الحزبين الكبيرين ، وهنا كانت الجبهة الإسلامية القومية تراقب وتناور، لأنها تملك المال الذي (دكنته) أيام مشاركتها لحكم نميري وتملك الخبرة، لأنها كانت جزءاً من النظام المايوي في أغلبية فترة حكمه. ووسط كل هذا الزخم السياسي الذي كان نجومه ولاعبيه السيدين الصادق والميرغني والشيخ الترابي الذي (سقط) في الانتخابات. ظل نجم السياسة المعتدلة والمعارضة البناءة من داخل البرلمان، الشيخ علي عثمان محمد طه (زعيم المعارضة) الذي أجبر الجميع على احترامه واحترام رأيه لأنه اختار طريقاً لايعرفه أغلبية ساسة تلك الحقبة التي انتهت بالمد والجزر من أجل الحكم، وليس من أجل الشعب الذي وضح جلياً له أن جميع هذه الأحزاب تسوق شعارات ونوابها وصلوا البرلمان، ولم يعودا إلى قواعدهم ليحلوا مشاكلهم التي وعدوا بها من انتخبوهم وأوصلوهم إلى قبة البرلمان. الشيخ علي عثمان اكتسب الزعامة والمشيخة من معارضته، وحديثه الذي يدخل العقول قبل القلوب ليلتف حوله الناس من كل الأحزاب وليس الإسلاميين وحدهم ، وهذا أكسبه قدره عجيبة وهبها له الله إلا وهي القبول، واتفاق الناس عليه وحوله، والتي من معجزاتها انحياز الاسلاميين له بعد المفاصلة والتفاهم حوله طوال فترة الانقاذ، على الرغم من أنه لم يكن من بين الذين وقعوا على (مذكرة العشرة) أو أي مذكرات أخرى. الشيخ علي وبعد المفاصلة لم تصدر منه أي تصريحات سالبة أو مسيئة في حق الشيخ حسن الترابي، وكذلك الترابي ظل يحترم ويقدر الشيخ علي طوال فترة حكم الانقاذ ولم يبدر ما يظهر أن هناك حقد أو ضغينة تجاه بعضهم البعض. الشيخ علي عثمان محمد طه وبعد اتفاقية نيفاشا التي كان عرابها وربان سفينتها التي نقلت التمرد من الغابات والأحراش إلى الخرطوم وإلى القصر الجمهوري الذي تنازل فيه الشيخ علي من منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية إلى نائب رئيس، وليس هذه فقط، فبينما كان الناس تتجه أنظارهم نحو نيفاشا كان للشيخ علي نظره في اتجاه آخر (وزن بها) اتفاق نيفاشا وهي حواره واتفاقه مع التجمع الديمقراطي برئاسة مولانا الميرغني لتتشكل حكومة عبّر بها الشيخ علي عن أماني وأمنيات الشعب السوداني الذي كان يتطلع إلى الاستقرار. الشيخ علي عثمان خلفيته قاضي مشهود له بالوقار رغم صغر سنه في تلك الفترة متنقلاً في أقاليم السودان المختلفة حتى جاء الخرطوم، ووقتها لم يحس الناس بانتمائه السياسي وظل قاضياً بعيداً عن أي تأثيرات أو توجيهات تأتيه من أي جهة كانت. الشيخ علي ولد وتربى بين أحضان أسرة كادحة في (منطقة الديم) التي يقدرها ويزورها ويرتبط بأهلها إلى يومنا هذا وكل رئاسات الدنيا ومناصبها لا ولن تنسيه عن مواصلة أرحامه وجيرانه الذين تفرقوا إلى مناطق أخرى، ولكن كانوا يوماً من الأيام جيران لشيخ علي وأهله. الشيخ علي يصدر أفعال ولايتعامل بردودها ولم ينسب له حديث فيه إساءة لأي شخص لأن الذين يعرفونهم ويظلون حوله تصلهم رسائله بمعاملته وأسلوبه الذي يجبرك أن تتعلم منه ولا تتلقى الأوامر بالوحشية السياسية التي برع فيها أغلبية القادة في عالمنا الثالث. لقد ظلت أسرة الشيخ علي وأخوانه بسطاء وفي حالهم ووظائفهم الحكومية والخاصة ووظيفة الشيخ علي فهموها على أنها تكليف وليس تشريف، تكليف من أجل الوطن والمواطن وأبناؤه لايعرف الناس عنهم شيئاً أنهم منصهرون في المجتمع ولم (يقشروا) بوظيفة والدهم لأنهم يعلمون أنها زائلة كالدنيا. الآن شيخنا علي ضرب المثال في الزهد بالسلطة مبادراً بالذهاب لايريد أن يعطي نفسه فضلاً بأنه ذهب ملبساً قراره ثوب الاتفاق الحزبي، وهذا أكبر دليل على قدرة شيخ علي لقبول (الرآي الآخر) حتى لو كان من خارج حظيرة الحركة الإسلامية أو الحزب الذي ينتمي له، وعمرنا لم نسمع أن هناك خلاف واختلاف بين الشيخ علي عثمان والسيد الرئيس عمر البشير الذي ظل ودوداً ومحباً ومقدراً للشيخ علي عثمان الذي يبادله نفس الاحساس. الشيخ علي الوظيفة لا تضيف إليه ولا تنقصه ،لأنه في كل الأحوال هو (الشيخ) وهو (علي) وهو ابن عثمان محمد طه ربان وقائد وزعيم الحركة الإسلامية الذي يسع جلبابه الجميع. وأخيراً (دموعي) غلبتني حباً وتقديراً لشخص هذا الرجل العظيم الأمة والتاريخ و(الغد) المشرق بإذن الله.