يقول : الكاتب السوري : «مروان ناصح» لا أعتقد أن أي قاريء في أية قارة في العالم لا يعرف الطيب صالح ذلك الأديب العربي النادر ندرة الذهب إذا تحدث وإذا صمت، خرج من أعماق ريفي شمال السودان، محملاً بنيران الصوفية والوجد. ثم غاص في دهاليز الحضارة الغربية ناقماً ومفتوناً فمساحة الولاية الشمالية تفوق مساحة أرض الكنانة إلا إنها منطقة منزوعة الإنسان، فقد رحل أهلها وتركوا باقي الموارد للقلة لفلاحتها وربط وصال الغائبين بالمكان والتأريخ . فسكانها لا يتجاوزون نصف مليون نسمة لأن إنسانها نادر وغالٍ كالذهب، لذلك امتزجت في كتابات الطيب صالح هواجس الماضي ورحل في شرايين دمه فرسان عرب اكتسبوا سمرة الجنوب وحلموا بالعدل المفتقد، أعطاه الغرب نوعاً من البصيرة فرأى نفسه كما لم يرها أحد من قبل، من تلك القرى النائية بشمالنا الحبيب أتى فارس آخر عمنا محمد يس حمد، المعروف «بود يس» أتى من مناطق «الكرد» ريفي الدبة حلة «الكبانية» في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي من تلكم الربوع المبنية بالطين الأسود المليئة بالشجن والحنين والنخيل والشوك والعشر، من تلك القرية التي تقع عند منحنى النيل. لم يغسل قدميه من طينها وكتاحتها ورائحة دميرتها وتمرها ودومها، كما فعل القائد الأثيوبي الذي دحر الطليان وأمرهم بغسل أقدامهم قبل الصعود إلى سفن الفرار، وحينما سؤل لماذا؟ قال: لكي لا يحمل جندي إيطالي ذرة من تراب الحبشة. فألقى (ود يس) عصا الترحال بمدينة الثغر منضما إلى مجموعة (أبو شامة) لأعمال البناء والمقاولات، وفي أدب الرحلات كان البحر دائماً الرمز المطلق للبطل الذي يترك أرضه وأحبابه وعواطفه لكي يجد نفسه في بحر هائج أو هادي حتى يصل إلى مقصده، ليبدأ حياة جديدة أظهر تميزاً وجدية في هذا المجال لماذا؟ لأنه أتى من رحم المعاناة، من تلك القرى التي تنمو فيها بعض الورود على تخوم الصحراء تلتحف بملاءة الليل وتفوح من أعطافها رائحة البخور وترانيم السادة الختمية. وأختم قولي بالصلاة معظماً يا ربنا صلِّ وسلم وبارك على المصطفى والأهل والصحب أجمعين صلاة تفوق المسك عطراً مفخما . فالمعاناة تثقل الإنسان تجرده من أنانيته تشفف روحه تجعله أقرب إلى المتصوفة. وحتى يستقيم المعنى عندما تعض بأسنانك ثمرة ناضجة وتتلذذ بطعمها الشهي أنت في الحقيقة تتذوق نور الشمس التي أنضجتها وتتذوق أحلام من زرعوها ولحظات مخاوفهم وعرقهم الذي سقاها وتتذوق آمالهم عند الحصاد في قطمة واحدة تتذوق حياة بأكملها صنعت تلك الثمرة الناضجة بهذه المعطيات والتمثيل الضوئي عاش (ود يس) وغادر أعمال «أبو شامة» في عام 1980م ليزرع بستانا جديداً بنفسه باسم (ود يس) للمقاولات مبعثراً عطره الفواح في كل أرجاء مدينة الثغر، ورغم عصاميته المميّزة إلا إنه كان يجد التقدير والاحترام من أبنائه العاملين والمهندسين وعلى سبيل المثال الباشمهندس أحمد حسن وعبد الله محمد صالح وكانوا يخصونه بالعطاءات الكبيرة لثقتهم فيه وإتقانه المتمكن من فن العمارة. كما كان مشهوداً له تمكنه الفني في أعمال الصبات، أي صب السقوفات مهما كانت مساحة الصبة لا يتجاوز تسليمها العاشرة صباحاً ومن طرائفه في هذا المجال أنه بدأ عمل صبة سقف في أحد الأحياء الراقية الساعة 5 صباحاً على ضوء أنوار القلابات، فمر به أحد زملائه قائلا: له يا ود يس ربنا يساعد فرد عليه الحمد لله ساعد وانتهي. علاقتنا به وبأسرته الممتدة قائمة من جانبنا على الاحترام العميق الذي نحمله له في أعماقنا وبقية العقد الفريد من أسرته الفاضلة الذين كانوا يتركون عطرهم في كل مكان ذهبوا إليه كأنهم رذاذ شفيف وعناقيد ضوء تناثرت من صدر سحابة حبلى بالفرح والحنين وأنت تتجول بديم الشاطيء تتلمس الذاكرة وتتفتح أمامك الوجوه الصبوحة الراحل عبد الرازق بابكر ومحمد عبد القيوم وعبد الغني وبخيت عبد الله والخير بخيت وساتي بخيت وعبد الرحيم أبو شامة ومحجوب أبو شامة وحمزة أبو شامة والعملاق بكري أبو شامة كنا حينما نأتي إلى منزله العامر بديم الشاطئ لمساعدة أحد من الحي نجده مستلقياً على سريره هادئا يتأملنا بعمق وابتسامة كأنه يريد أن يقرأ ماهية مخزوننا كي يعطي ما يحتاجه كل منا، كأنه يقول: لنا مع كل جنيه أكسبه ويدخل جيبي كنت أخسر قطعة من حريتي فأسرع بإنفاقه ولأن الحلم صفة ملازمة للإنسان، فكل الأفكار الجميلة كانت حلماً ولكن مطلوبا منا استثمار الحلم، من تلك الربوع أتى هؤلاء الأفذاذ، الذين هزوا سكينة الكون، سعيد ميرغني ومحي الدين مكي والبشير حامد ود وشي وعيسى طه وفرح السيد وآل أبو شامة وعبد الرحيم عبد الجليل والعمدة أبو شوك ومحمد أحمد يس ومكي إسماعيل (السكرتير) وعبد الرحيم مكي بلة والعجمي والابن عادل البكري أحمد . تعلمنا من (ود يس) كيف يراوغ خرائط البناء وكيف يبني لها سكنا في قلوبنا وحينما يمسك بعصا المايسترو لبدء العمل كأنه يعزف على أحد المقامات وحينما اقترح عليه بعض المهندسين استعمال الآلات الرافعة الحديثة لإنجاز صرح كبير في وقت مبكرا رفض قائلاً : لهم من أين يأكل هؤلاء العمال المساكين؟ توثقت علاقته بأبناء الحضارمة وهم قوم جمّلوا هذه المدينة وأقاموا فيها كثيراً من المشروعات الإنسانية كان لود يس نصيب الأسد فيها وما زال آل باوارث والبعاشرة وآل باعبود وباشيخ يحملون كثيرا من المحبة التي تفتح البصيرة وتزيل الحجب، ومن مواقفه الإنسانية أن أحد رجال الأعمال السعوديين جاءه لبناء مسجد بالمدينة وقام بإنجازه في وقت مبكر وتبقت له مع رجل الأعمال مبلغ 5 ملايين جنيه وحينما أتته الدعوة منه لحضور الافتتاح لم يذهب خوفاً من أن يقال إنه جاء لأخذ ما تبقى له من مال وشدد أحد المهندسين على ابنه بالذهاب معه لأخذ حق والده. وبدون تنسيق كانت خطبة الإمام تدور عن حقوق الناس وإرجاع الحقوق إلى أهلها وبعد الصلاة تحدث رجل الأعمال مع المهندس وقال له بأن يأتيه (ود يس) غداً لأخذ حقه، وحينما أخبره ابنه بذلك غضب قائلاً لهم (أنتو كمان كلمتو الإمام)- رحم الله- عمنا (ود يس) الذي غادر الفانية بالخرطوم في أول مارس 2012م منتقلاً إلى الدار الآخرة تاركا منجما من الأفكار والعمل الصالح إلى من يخوض غماره بموضوعية وانفتاح. تقول: بعض سيرته الذاتية إنه من مواليد 1918م، جاء إلى مدينة الثغر 1940م، والدته فاطمة أبو شامة، وزوجته ست نور محمد علي أبو شامة، له أربعة أبناء- عثمان وعبد الرحمن وعبد العظيم وسبقه بالرحيل ابنه عبد الله. بناته جواهر وليلى وابتسام، شقيقاته التومة زوجة عبد الرازق بابكر وزينب زوجة قسم الله وأمونه زوجة بخيت عبد الله، شقيقه الأصغر الراحل محمد أحمد يس . ما زال الموت قادراً على الإدهاش ولا تزال في المسبحة لآلي كثيرة تنتظر السقوط تاركة مكانها فراغا لا يملأه سوى شعاع النور الذي عكسته على الدنيا قولا وفعلا .... تطل علينا ذكرى رحيله الثانية في أول مارس 2014م لتعيدنا إلى ذلك الزمن المستظل نفيء إليه كلما حاصرتنا الأوجاع نبحث عن مرفأ المستحيل وعن مدار فوق بال الخيال حتى يعطينا شيئاً من تماسك النفس ورحمات الذات رحم الله العم (ود يس) رحمة واسعة. اللهم اجمعنا بهم في دار (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمدلله ربّ العالمين) ولا حول ولاقوة إلا بالله.