يمكن تصنيف الركشة بأنها أصغر وسيلة مواصلات في عائلة المركبات العامة.. اتسمت بالخفة والسرعة و«الميسان» والزوغان والتخطي في الطريق العام الأمر الذي جعل استخدامها محفوفاً بالمهالك والمخاطر بعد أن تكدست حوادثها كما حامت حولها الإشاعات والشبهات وحين اتخذت وسيلة للمواصلات كان القصد منها السير في الشوارع العرضية والمسافات القصيرة.. ومع تقادم الأيام ازدادت أعدادها وأصبحت كالجراد المنتشر في المواقف والطرقات والأحياء والأسواق تنهب الأرض وتطوي المسافات والامتدادات البعيدة.. وصاحب هذا مضاعفة «تعريفتها» وارتفاع تكلفة المشاوير التي صارت خرافية وأحياناً استغلالية والما عاجبو اركب «كرعينو» أو رأسو أما سائقوها فجلهم من الشباب والطلبة الذين لم تتوفر لهم فرص العمل أو نحوه .. بعضهم يجنح إلى التهور وعدم الالتزام بقواعد السير والمرور الذي تنتج عنه الكثير من المشاكل والأضرار. والركشة كغيرها من المركبات لا تخلو من الطُرف والحكايات فإذا كانت جديدة «لنج» يلجأ أصحابها إلى كتابة عبارات وشعارات ومفردات في مؤخرتها تعبيراً عن مدى إعجابهم بها من قوتها ومتانتها وسرعتها حتى تجلب وتدر عليهم مزيداً من الرزق.. وقد استوقفتني عبارة «ركشة وعاجباني» وقد صيغت على أغنية د. عبد الكريم الكابلي زينة وعاجباني وفي إحداها كتب عليها «الصقر» وكما هو معروف فإنه من الطيور الجوارح التي تمتاز بالقوة وحدة البصر وسرعة الانقضاض على فريسته وهذا هو حال هذه الركشة وسائقها الذي يتصيد ويشرك لاقتناص ركابه في الطرق والأزقة والأحياء وإذا كانت قديمة و«مكركبة» وعبارة عن حديد «خردة» يمشي على الأرض وتخوفاً لما يلحق بهم من أذى وما تجره عليهم من كوارث وويلات يسطرون عليها ما يدل على التوسل والتضرع والدعاء مثل سترك يا رب يا حافظ يا حفيظ. وهذا يقع في باب أدب الركشات» والركشة رغم حيزها ومساحتها الضيقة التي تشبه العلبة أو الصندوق يضع فيها السائق جهاز تسجيل وأحياناً بسماعات تحدث ضجة وضجيجاً يثير أعصاب الراكبين.. فضلا عن السائق الذي من المفترض أن يكون في قمة الحضور والتركيز والانتباه.. فيظل يتفاعل ويتناغم ويتراقص مع ما يبثه هذا الجهاز من أغنيات خاصة إذا كانت من أغنيات البنات بمصاحبة آلة الأورغن الذي يصم الأذان.. وبذا ينطبق عليها المثل القائل «هي عايرة وأدوها سوط» استغللت ركشة «طرحة» في أحد مشاويري كان سائقها يضع شريط كاسيت كنت أحسبه من النوع «إياهو» ولكني فوجئت بأنه يحوي محاضرات وندوات وأحاديث للعلاّمة عبد الله الطيب الأمر الذي أثار دهشتي وحقيقة فقد سعدت كثيراً أن يهتم هذا السائق الشاب بأمر الثقافة على وجه العموم وتحديداً أدب وثقافة ومعرفة وعلم وفكر العلامة الذي توسعت وتنوعت مصادره ومشاربه ومنابعه فطفقت أنصت إليه يتمعن ما بين مصدقة ومكذبة فهذا شيء على غير المعهود والمألوف وبينما أنا كذلك إذا بالراكب الذي يجاورني يصدر تنهيدة عميقة مترحماً على روح عبد الله الطيب فأخذ يعدد مناقبه ومآثره الإنسانية والاجتماعية والثقافية والعلمية وحكى لنا عن أنه كان أحد تلاميذه في جامعة الخرطوم وكذلك من محبيه ومعجبيه ويحفظ الكثير من مؤلفاته وأشعاره وكنا نستمتع إليه بنهم وشوق وهو يلقي علينا مقاطع من أشعاره ومنظوماته بصوت جهوري ومنشرح ووجه مؤتلق حتى كادت الركشة أن تتحول إلى منتدى أو قاعة للمحاضرات ومن ضمن ما ألقى علينا قصيدة بعنوان «الكأس التي تحطمت» كان قد نظمها «6491م» وبالرغم من اهتمامي الكبير بأدبه لم أستمع إليها إلا في تلك الركشة وعبر هذا المشوار المبارك و«الميمون» الذي هيأ لي هذه الفرصة النادرة والثمينة التي أعدّها إضافة حقيقية وزيادة معرفية لمعلوماتي تقول بعض مقاطعها: نتساقى روح إيناس وراح وجدال كان مجناً للمزاح والمراح فوددنا لو مكثنا هكذا حتى الصباح قد خلعنا حذر الغربة إلا هجسات واضطراباً لابساً ثوب ثبات كحياء الخفرات الخدرات الفطنات لمح الشر وأغض النظرات ومضى مضطرباً مرتقباً متخذاً زي ثبات يتوقى الوثبات. أما ثالث ثلاثتنا في «الطرحة» أو الركشة فقد كان رجلا طاعن السن ارتسمت على ملامحه انفعالات وتأثيرات وذكريات سرعان ما أفصح عنها بأنه كان يعمل «مراسلة» في ذات جامعة الخرطوم عندما كان العلاّمة مديراً لها وكيف أنه يحسن معاملتهم باللطف والأدب والتقدير والاحترام فأردف قائلاً مضت أيام ويا حليلها ترقرقت على إثرها دمعات من عينيه الغائرتين فهمست في نفسي شكراً لهذه الأقدار والصدفة العجيبة التي جمعتنا في هذا المشوار أو في هذا اللقاء وددنا لو امتدت المسافة والساعات حتى ننعم وننتفح بشذى سيرة وذكرى علامة العلماء التي هي أصلاً محفورة ومنقوشة في دواخل كل من يهوي الأدب ويتعاطى الثقافة. أما السائق فقد أبدى سعادة غامرة وهو يتنازل عن حقه لنا في دفع قيمة هذا المشوار الاستثنائي كما وصفه أما عن سر اهتمامه وحرصه على الاستماع والاستمتاع بهذه الأشرطة حتى وهو يؤدي في عمله فأفادنا أن هناك علاقة أدبية تربطه بالعلامة منذ أن كان طالباً في الجامعة نفسها فهو من الخريجين أو الطلبة الذين كانوا يتركون قاعاتهم ومحاضراتهم في كلياتهم ويتجمهرون في كلية الآداب حتى يستمتعوا بمحاضراته القيمة والمفيدة ومن ثم يلتفون حوله يتبادلون معه النقاش والفكر والعلم وأيضاً الملح والطرف التي كان ينثرها ببساطة وأريحية وشفافية لا تعرف الكِبر والغرور والرياء ولو كنت وزيراً للنقل أو الثقافة لعمدت إلى «تكريم» هذا الشاب الذي امتلأت جوانحه وفاضت بحب وعشق علامّة العلماء وأديب الأدباء الذي عمت شهرتهم المدن والقرى والحواضر والمدائن داخل وخارج البلاد ... نفعنا الله وإياكم بعلمه. ونسأل الله أن يكتب ذلك في ميزان حسناته فقد كان كما قال الشاعر: علاَّمة العلماء واللُج الذي لا ينتهي ولكل لج ساحل لو طاب مولد كل حي مثله ولِد النساء وما لهن قوابل.