بقلم: عادل إبراهيم حمد كاتب صحفي سوداني ليست وقفاً على السودان وحده ظاهرة الفرد القابض على مفاصل الدولة أو الحزب، فهي ظاهرة (عالمثالثية) حيث لا يرى الزعيم رعاياه إلا ما يَرى بدعوى أنه يهديهم سبل الرشاد. ويتدرج وصفه من (الدكتاتور) – هكذا صريحاً – إلى وصف يضفي على الديكتاتورية بعض الألق عله يزينها إذ هو (المستبد المستنير) وتلحق به في السسودان صفات حانية مثل (الرعاية) أو (الأبوية). وهو وصف لا يبدل كثيراً في طبيعة فكرة الفرد القابض، حيث تفرز في أحسن الأحوال قائداً قوياً يدور في فلكه (قادة) صغار يفقدون تدريجياً روح المبادرة ثم يتصفون بالخضوع ثم الخنوع ولا تحركهم إلا رهبة من القائد وبطشه أو رغبة في القرب ولو بالتزلف والمداهنة.. وهي حالة تورث النظام أو الحزب الانهيار فور غياب الفرد القابض. القيادي القابض بالمفاصل يمثل السيد محمد عثمان الميرغني رئيس أو زعيم الحزب الاتحادي الأصل مثالاً جيداً للقيادي القابض بكل المفاصل وقد أعانه على ذلك بجانب شخصيته الدينية بلاؤه الحسن في فترة المعارضة لنظام الإنقاذ حين قاد الحزب في إطار قيادته للتجمع الوطني الديمقراطي وهي حالة قد تفرض طبيعتها (تفويض) القائد فتقوى قبضته حيث أن الجدال والمراجعة ليست من لوازم مراحل النضال والعمل السري. صادفت حالات التفويض وإطلاق اليد هوى في نفس (السيد) الذي يميل للانفراد بالقرار ويحس بحكم وراثته لمجد عائلي وسياسي كبير بأن واجب الآخرين تجاهه هو التعظيم والتبجيل لذا تغضبه محاولات المناقشة أو المراجعة التي قد تبدر من البعض أما المساءلة والمحاسبة فهي كفر صريح. المؤسسية في الأحزاب هذا الوضع يقبله تيار عريض في الحزب باعتبار أن المؤسسية في الأحزاب السودانية لم تتضح بعد ويؤمن هذا التيار بضرورة وجود (كبير) يكون إطاراً للوحدة وأساساً للتماسك في الحزب.؛؛؛ الميرغني رئيس أو زعيم الحزب الاتحادي الأصل مثالاً جيداً للقيادي القابض بكل المفاصل وقد أعانه على ذلك بجانب شخصيته الدينية بلاؤه الحسن في فترة المعارضة لنظام الإنقاذ ؛؛؛ ويرى تيار آخر أن عدم اكتمال المؤسسية لا يعني القعود دون العمل على إكمالها وأن المؤسسية الناقصة لا تعني إخراس الألسن الناقدة وإغلاق أبواب النقاش والمراجعة. ولكن تلاحظ أن التيارين يلتقيان عند عبارة أصبحت مألوفة في أدبيات هذا الحزب هي (التأكيد على زعامة السيد محمد عثمان الميرغني) يقول بها – بداهة – الخاضعون لطريقة السيد في إدارة الحزب ويقول بها آخرون إما إيماناً بأن وجود السيد يعين على تماسك الحزب أو خشية أن يستغل الخصوم التحفظات ويوظفونها لضرب التيار المتحرر نسبياً. ولكن هل تستمر طريقة (إلا السيد) إلى ما لا نهاية أم تفرز سلبيات قد تولد تياراً ناقداً لا يستثني (حتى السيد)؟. شعار "حتى السيد" لم يبرز في مسيرة الحزب الماضية ما يوحي باحتمال نشوء شعار (حتى السيد) لكن الخلاف الأخير الذي نشب في مكتب الخرطوم التنفيذي قد يحمل بذور هذا الشعار. بدأ الخلاف بإجراءات بدت عادية اتخذها المراقب العام في مواجهة من يعتبرهم قد أتوا من الأقوال أو الافعال ما يضعهم موضع المساءلة والمحاسبة. ولكن قرارات المراقب قوبلت بالرفض من المكتب وتسارعت وتيرة التصعيد بين الطرفين حتى تم حل المكتب بأكمله. لم يعترف مكتب الخرطوم بقرار المراقب العام واعتبره غلافاً تنظيمياً لخلاف سياسي كبير بدأ بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة بين تيار يقوده مكتب الخرطوم و(مجموعة المؤتمر الوطني) في الحزب - حسب تسمية الأستاذ أحمد عبد الله كرموش القيادي في مكتب الخرطوم - حين قادت هذه المجموعة توجهاً للمشاركة في السلطة لكن مكتب الخرطوم قاد مقاومة أبطلت هذا التوجه. ويعتبر كرموش، المراقب العام بابكر عبد الرحمن جزءاً من هذا الصراع السياسي لأنه أحد الساعين بشدة للمشِاركة في حين أن مكتب الخرطوم ما زال عند موقفه المقاوم وينادي الآن بتشكيل حكومة قومية تسبق إجراء انتخابات مبكرة. الخلاف مع "مكتب الخرطوم" يرى الأستاذ تاج السر محمد صالح أيضاً أن الخلاف مع مكتب الخرطوم سياسي ولكنه يستند إلى حجة مختلفة حين يقول إن رفض مكتب الخرطوم لقرارات المراقب العام منطلقها سياسي داخلي أي يخص الحزب. ويصف اجتماع مكتب الخرطوم الأخير بأنه (حلفايا تو) أي امتداد لاجتماع الحلفايا الذي كان غرضه تحجيم دور السيد ويستدل على ذلك بمشاركة عدد من أقطاب اجتماع الحلفايا - حتى الذين من خارج الخرطوم - في اجتماع مكتب الخرطوم الذي تزامن مع الاجتماع الذي دعا له مشرف الخرطوم بدار الحزب في أمدرمان. وباستفسار الأستاذ تاج السر عن الخطأ في سعي البعض لتحجيم دور السيد أجاب بأن للحزب دستوراً ولوائح تضبط عمل أجهزته وعضويته ولذلك فإن الاجتماعات خارج الأطر التنظيمية تعد خروجاً على ضوابط الحزب وهو ما يعيب اجتماع الحلفايا. ولذلك فإن الإجراءات التي اتخذها المراقب العام فيما يخص تداعيات هذا الاجتماع أو تجاه مكتب الخرطوم لا تخرج عن واجبات وسلطات المراقب العام حسبما حدده دستور الحزب. ؛؛؛ مسيرة الحزب الماضية لم يبرز فيها ما يوحي باحتمال نشوء شعار (حتى السيد) لكن الخلاف الأخير الذي نشب في مكتب الخرطوم التنفيذي قد يحمل بذور هذا الشعار ؛؛؛ تحجيم دور السيد الأهم في آراء الأستاذ تاج السر – فيما يخص محور هذا التقرير – هو الإشارة إلى اتجاه صريح لتحجيم دور السيد ولا يقلل من خطر هذا التوجه الطعون القانونية التي قدمها القانوني الضليع صاحب الشخصية الهادئة لأن الثورات لا يقيدها حتى (الدستور) وإلا لما كانت ثورة. وقد يتنامى هذا التيار حتى يصبح (تسونامي) يكتسح كل ما في طريقه وأولها دستور ولوائح حزب سبق أن غادره رئيس لجنة (الانضباط) إلى المؤتمر الوطني. ولكن الأستاذ يوسف أحمد عثمان عضو هيئة المراقب العام يستبعد هذا الاحتمال ويحصر كل الأشكال في عدم التزام مكتب الخرطوم بالضوابط التنظيمية، إذ لابد أن يواجه مكتب الخرطوم وكل من يخرج عن الضوابط بما يعيد الأمور إلى نصابها وإلا فإن الفوضى تضرب بأطنابها كل أجهزة الحزب وأداءه السياسي. ودحض دعاوي قيادات الخرطوم الذين زعموا أن الخلاف سياسي خاص بموضوع المشاركة مع المؤتمر الوطني في السلطة. وأشار إلى أن بعض القيادات التي تدعي هذا الزعم سبق أن فاوضت المؤتمر الوطني على أمل الانتقال إليه، ويسمون الآن من يفاوض تنفيذاً لقرارات صادرة من المكتب القيادي للحزب (مجموعة المؤتمر الوطني) وكأن قرارا التفاوض قرار شخصي. وأوضح الأستاذ يوسف أنه شخصياً يدرك أن المشاركة في السلطة تعني تحمل تبعات وأثمان ولكن الحزب شأنه شأن الأحزاب الكبيرة يدخل التفاوض غير هياب ويتخذ القرارات وفق ما يفرزه التفاوض الذي قد يقود إلى المشاركة في السلطة أو قد لا يقود. وقال في ختام حديثه إن الحزب يعيش الآن أفضل حالته التنظيمية ولو كان الحزب في الديمقراطية الثالثة على ما هو عليه الآن من ضوابط تنظيمية لما وقع إنقلاب الإنقاذ. شعار "حتى السيد" في الجانب الآخر ألمح (الخليفة) أحمد كرموش إلى إمكانية بروز شعار (حتى السيد) لكنه ربطه بشرط واحد هو أن ينحاز السيد صراحةً إلى الجناح الآخر ولكنه استدرك فوصف هذا الشرط بأنه (نظري) مستبعداً ذلك، إذ أن السيد لا يميل لمثل هذه المواقف القاطعة كما أنه غير متحمس للمشاركة في السلطة مع حزب اعتقله وصادر أملاكه ولاحقه سياسياً بحملات مغرضة. ولكن الأستاذ علي السيد الذي عرف بالوضوح في إبداء آرائه فقد قال بصراحة إن الإصلاح بفهم بعض الأفراد في الحزب يمكن أن يشمل (حتى السيد) وأن هؤلاء الأفراد عندما يرفعون شعار (إلا السيد) إنما يقصدون تحييده في معركتهم مع (رجال حول السيد) يرى الإصلاحيون أنهم يعينون الميرغني في طريقته الفردية. وإذا نجح هؤلاء في معركتهم مع رجال السيد فإن السيد سوف يكون هدفهم في المعركة النهائية. طريقة "الرجل الأوحد" وكأن كمال ناصر يعضد رأي علي السيد بقوله إن لا خلاف على مكانة السيد الدينية التي يجب أن تكون موضع الاحترام اللائق، أما موقعه في رئاسة الحزب فهو جزء من المؤسسة الحزبية لا تختلف عن الأمانة العامة والمكتب السياسي وغير ذلك من الأجهزة في المؤسسة الحزبية وعليه فإن الرئاسة هي موضع المناقشة والمراجعة وغير ذلك من لوازم العمل السياسي. وأعاد ناصر إلى الأذهان نقده لما تسرب من قرارات حول حل السيد لأجهزة الحزب حين هاجم كمال ناصر طريقة (الرجل الأوحد) في الإدارة. وعزا ناصر كل الإشكالات الأخيرة إلى رأيه الصريح الناقد لهذا القرار وأكد أنه شخصياً سوف يقاوم أي اتجاه لطريقة الرجل الأوحد في إدارة الحزب، وسوف يواصل – مع آخرين – العمل الدؤوب من أجل بناء المؤسسة الفاعلة في الحزب. صراع المصالح والمبادئ ولكن إصلاحياً آخر في مكتب الخرطوم - فضل حجب اسمه - يرى أن تيار الإصلاح لا يمكن أن يمس السيد من قريب أو بعيد لأنه (كبير) الحزب وأن الصراع الأخير هو بين أصحاب المبادئ وأصحاب المصالح. ؛؛؛ إصلاحيون يتساءلون في همس إن كان السيد قد (نسي) قراره بإعفاء مشرف الخرطوم مشيرين إلى ممارسة المشرف لأعبائه وإدارته لاجتماع أمدمان رغم قرار الإعفاء ؛؛؛ وبرر عدم اعترافهم بقرار المراقب العام بعدم الاختصاص نافياً أن يكون المراقب العام يستمد سلطاته بالتفويض من السيد ثم أكد أن القرار لو كان صادراً من السيد مباشرةً لخضع له مكتب الخرطوم لأن دستور الحزب يخول للسيد هذه الصلاحيات. صراع الخرطوم رغم احتدامه إلا أنه لم يفرز (الكيمان) لكن يبدو أن (براعم) الإصلاح قد برزت.. مبدأ (إلا السيد) هو السائد حتى الآن لأن الجميع في سباق دائم نحو مقر السيد، سباق بين التيار الموالي الذي (ينقل) للميرغني تفلتات الإصلاحيين، والتيار الإصلاحي الذي (يحج) إلى الجنينة ينفي الاتهامات ويؤكد الولاء. ولكن هذا السباق الممل جعل بعض الإصلاحيين – وعلهم الأفراد الذين عناهم علي السيد – يعبرون عن شكوكهم في كفاءة زعيم يسمع الوشاية فيصدق ويسمع النفي ويقتنع. ويتساءل إصلاحيون في همس إن كان السيد قد (نسي) قراره بإعفاء مشرف الخرطوم مشيرين إلى ممارسة المشرف لأعبائه وإدارته لاجتماع أمدمان رغم قرار الإعفاء. يبدو أن لعاصفة مكتب الخرطوم مايليها. وسوف ترتخي قبضة الرجل الأوحد، بحكمة منه أو بطوفان، والثاني هو الأرجح.