ما أكثر المبادرات الثقافية الشجاعة التي ذهبت أدراج النسيان بعد فترة وجيزة من طرحها، وما أكثر المشاريع الأدبية والفكرية التي التفَّ حولها الناسُ زماناً وما لبثت أن ذهبت أدراج الرياح بعد سنوات قليلة. وما أكثر الأطروحات والمقترحات الطموحة التي جاءت في وقتها وزمانها، وخاطبت راهناً وداعبت الأفئدة والعقول بالأحلام المشروعة على آفاق الاحتمالات الواعدة، وما أن استقرت قليلاً حتى ذهبت دون أن ينعيها أحد أو يشيِّعها الناسُ إلى مثواها الأخير. أين المشكلة؟ فما هي مشكلة المشاريع الطموحة التي يطرحها الذهن الثقافي السوداني؟ وأين الخلل في هذه المسألة؟ وإلى متى سنظل نعيش في وسط ثقافي دون مشاريع طموحة يمكن أن تتحقق في الواقع وتطرح ثمارها للناس؟ هل سنظل طويلاً أسرى لحالة الاستهلاك اليومي التي نمارسها بصورة رتيبة دون أفق واعد؟ وهل سنظل نذهب يوماً بعد آخر لنشهد ما يسمى ب"الفعاليات الثقافية" هنا وهناك، والتي تنفض بعد لجاج ومماطلات مرهقة لنستقبل يوماً آخر بلا أي وعد طموح في حراك ثقافي واع يمكن أن يشكل حائط صد منيع للثقافة السودانية؟ مبادرة بشرى الفاضل على شاكلة هذه الأسئلة يمكن أن نذهب بعيداً إلى ما لا نهاية دون أن نصل إلى نتيجة واضحة، ولكن دعونا نعود إلى مفتتح هذا المقال مرة أخرى لنكرر الحديث حول المبادرات الثقافية الطموحة التي وئدت في مهدها. " بشرى الفاضل اقترح تكوين دار نشر ثقافية كبرى عن طريق تجميع مساهمات الكتاب والمبدعين المقيمين في مهاجرهم الأوروبية والأميركية " ومن هذه المبادرات نذكر المبادرة التي طرحها القاص د. بشرى الفاضل قبل أكثر من أربعة أعوام والتي طرحها في الإنترنت بخصوص تكوين دار نشر ثقافية كبرى عن طريق تجميع مساهمات الكتاب والمبدعين المقيمين في مهاجرهم الأوروبية والأميركية. وكان أن التف المبدعون حول هذه المبادرة وكتبوا كلاماً كثيراً على شبكة الإنترنت حول ضرورة وجود مثل هذه الدار وأهميتها في توصيل الكتاب السوداني إلى العالم الخارجي عبر الطباعة المتقنة والترجمة الجيدة. ولكن أين هي هذه المبادرة وإلى أين ذهبت تلك الأقوال الجذابة والبراقة التي ساندت الفكرة ووقفت معها وأعلنت عن التزامها المادي والمعنوي حول الوقوف مع هذا (المشروع الثقافي الطموح)؟ من باب التآسي على العموم لن نمضي طويلاً في سرد قائمة المشاريع الفاشلة أو الموءودة، ولكننا نذكر بعضها إن لم يكن من باب الذكرى التي تنفع فمن باب التأسي. نذكر في هذا الصدد جماعات مسرحية وثقافية ذهبت أدراج النسيان. من لدن: جماعة أباد ماك الأدبية، رابطة سنار الأدبية، الجزيرة للآداب والفنون، كردفان الأدبية، جماعة السديم المسرحية، جماعة تجاوز الثقافية، ندوة الجندول، مجلة فصول الثقافية، مجلة الخرطوم والثقافة السودانية. وقائمة لا تحصى من المشاريع الطموحة التي كان يعول عليها الكثير في طرح الأفكار الشجاعة والمبادرات الواعدة في إزكاء الذهن الإبداعي والثقافي في السودان. مبادرات نبيل غالي ذكرت ما ذكرت من مبادرات كان من الممكن أن تؤتي أكلها ليس من باب التأسي بطبيعة الحال، ولا من باب (الذكرى الجميلة)، إنما كان قد داعبنا (أمل جديد) كان من الممكن أن يفضي إلى مشروع طموح إذا ما تكاتف حوله المعنيون بالشأن الثقافي على وجه التحديد، والمهتمون والقراء على وجه العموم. " نبيل غالي اقترح مشروع (كتاب في جريدة سوداني) على غرار كتاب في جريدة الذي تدعمه اليونسكو ويوزع ملايين النسخ شهرياً في أنحاء العالم كافة " وجلية الأمر، أن الأستاذ نبيل غالي، الصحافي والناقد المعروف، كان قد طرح في عموده المقروء قبل فترة مشروع (كتاب في جريدة سوداني) على غرار كتاب في جريدة الذي تدعمه اليونسكو ويوزع ملايين النسخ شهرياً في أنحاء العالم كافة. وفكرة الأستاذ نبيل بسيطة وعملية، وهي أن هناك كتباً سودانية كثيرة جداً على مدار القرن الماضي لم يتم إعادة طباعتها بعد نفادها من المكتبات على الرغم من أهميتها القصوى في المساهمة في رفع الوعي والاستنارة. هذه الكتب يجب أن يتم إعادة نشرها في مشروع بسيط وغير مكلّف مادياً أسماه مشروع كتاب في جريدة. ووجه دعوته لرؤساء تحرير الصحف والمشرفين الثقافيين على الملاحق الثقافية، بالإضافة للمراكز الثقافية والشركات الخاصة للمساهمة في أن يرى هذا المشروع النور وتعانق أحرفه أعين القراء المتطلعة للإنتاج الإبداعي والفكري السوداني. ولكن يبدو أن مثل هذه الأفكار (الطوباوية) ما عادت ذات جدوى في هذا (الزمان الرأسمالي) بامتياز، إذ لم تحرك دعوة الأستاذ نبيل غالي ساكن الوسط الثقافي النائم في (عسل أسود ومنيل)، كما أنها لم تستقطب قلم رئيس تحرير أي صحيفة يومية لمساندته ولو من باب المجاملة. قلنا إن مبادرة الناقد نبيل غالي لم تحرِّك أحداً عدا الزميل أسامة عباس، المحرر الثقافي المعروف، الذي كتب مسانداً الفكرة وداعماً لخطها بحماس وحب كبيرين. نأمل في استجابتكم إذاً، هذا المشروع- الفكرة، كي يتحقق لا بد له من مساندة ودعم على مستويين: المستوى الأول: التفاف المثقفين والكتاب حول المشروع بالكتابة عنه والتبشير به. المستوى الثاني: وهو تحويل الفكرة إلى (مشروع عملي) بحيث يتحوّل إلى واقع ملموس، وهذا يحتاج إلى تضافر جهود الجميع من كتاب ومثقفين ومبدعين ومراكز ثقافية وبحثية وجماعات أدبية وشركات خاصة.