(تصرَّم واحدٌ وثلاثون عاماً منذ برز السودان، افتراضاً، دولةً قوميةً، واليوم فالسودان ليس، بأيٍّ من التعابير، أقرب إلى الوصف -الدولة القومية- مما كان عليه العام 1956م عندما تمَّ إعلانه دولةً حرةً مستقلةً، بالإضافة إلى الصراع الحاد بين الشمال والجنوب). (والصراعات العرقية الثقافية تظهر بجلاء في أقاليم مختلفة في السودان، واللفظ (سوداني) ليس، حتى الآن، لفظاً يمكن قبوله دون اعتراضاتٍ، كتعريفٍ مقبولٍ لكلِّ الذين يقطنون هذه المليون ميلٍ مربعٍ التي تُعرف باسم جمهورية السودان). القومية السودانية بهذه الكلمات صدَّر خالد حسن الكِدْ (1942- 1995م) كتابه: "الأفندية ومفهوم القومية في السودان"، الصادر حديثاً عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، الذي حاول فيه متابعة القومية السودانية منذ مَقدم الحكم الثنائي، الوقت الذي يعتقد فيه أن جرثومة القومية الأولى فقّست فيه. ؛؛؛ البريطانيون لعبوا دوراً خطيراً في استطالة الحواجز وتوسيع الشُقة بين المفهومين العروبي والأفريقي، لذلك تظهر الصراعات العرقية الثقافية بجلاء في أقاليم مختلفة في السودان ؛؛؛ وحاول خالد الكد متابعة الجوانب الإيجابية والسلبية في ممارسات الحكم الثنائي -البريطاني والمصري- ولعل أهم إسهامات الحكم الثنائي، هي خلق ما عُرف مستقبلاً ب(طبقة الأفندية)، أولئك الشباب الذين أعطتهم إدارة الحكم الثنائي تعليماً غربياً حديثاً. كتاب: (The Effendia and concept of nationalism in Sudan)، هو في الأصل رسالة أطروحة تقدَّم بها خالد الكِد في العام 1987م لنيل درجة الدكتوراة من جامعة ريدنغ (Reading) ببريطانيا. وقام بنقله إلى العربية المترجم محمد عثمان مكي العجيل، مقسماً إلى سبعة فصول جاءت كالتالي: القومية معاني ومفاهيم مختلفة، من إعادة الغزو وحتى 1924م، ما بعد الأحداث، الأبروفيون، جماعة الموردة/ الهاشماب/ الفجر، مؤتمر الخريجين وتأسيس الأحزاب السياسية، ما قبل الختام والخاتمة. كما ناقش الكتاب بشيء من التوسُّع الصراع بين العروبية والأفريقية في مفهوم القومية وانعكاسات ذلك على العلاقة بين الشمال والجنوب. واستكمالاً لهذا فقد حاول الكتاب، أيضاً، تقصي الجذور التاريخية للعلاقة منذ العهد التركي مروراً بالمهدية وحتى فترة قيام الحكم الثنائي التي لعب فيها البريطانيون دوراً خطيراً في استطالة الحواجز وتوسيع الشُقة بين المفهومين العروبي والأفريقي. وختم الكتاب بربط الجوانب السلبية والإيجابية بصراع اليوم حول الهُويَّة والذاتية السودانية. كما ناقش الكتاب أهمية التمييز بين القومية والوطنية. قراءة المستقبل الاهتمام المركزي لهذا الكتاب هو دراسة المسألة القومية من وجهة نظر الأفندية أثناء الحكم الثنائي، والدافع لهذه الدراسة من وجهة نظر المؤلِّف يكمن في سببين أساسيين هما: إيمان المؤلِّف بأنَّ القومية في السودان -كما في العديد من البلدان الأفريقية والآسيوية- هي نتاج طبيعي للاستغلال الأوروبي لهذه المناطق، ذلك الاستغلال الذي يسمى الاستعمار. السبب الثاني هو أنَّ الحكم الثنائي هو من أدخل جرثومة القومية عندما أدى إلى ظهور الأفندية والذين أصبحوا نخبة مهنية -الأولاد المتعلمون في المدن الجديدة- على قول هودجكن، وهكذا أمسك هؤلاء الأفندية بمسألة القومية وبدأوا في صياغة المفاهيم المختلفة استناداً على العديد من العوامل. بقي أنْ نشير أخيراً إلى أنّ كتاب الأفندية جديرٌ بالقراءة لأسباب عدة، منها ما قيل آنفاً، ومنها أنَّ فيه نظرات استشرف فيها المؤلِّف الكِد المستقبل وقرأه بعين المتابعة والفحص والاهتمام العالي، قاربت هذه النظرات محل أنْ تكون تنبوءات تحقّق بعضها. ؛؛؛ قضية القومية والذاتية السودانية أمرٌ لم تتم الإجابة عنه لنضع الحل الناجع، والعمل بمقتضى الإجابة من شأنه أنْ يحسم كل القضايا المصيرية التي واجهتنا وستواجهنا في المستقبل ؛؛؛ الأمر الآخر أنَّ قضية مثل القومية والذاتية السودانية أمرٌ لم تتم الإجابة عنه الإجابة الكاملة التي تضع الحل الناجع، لأنّ حسم هذا السؤال بالإجابة عليه وبالعمل بمقتضى الإجابة من شأنه أنْ يوقف ويحسم كل القضايا المصيرية التي واجهتنا وستواجهنا في المستقبل. الأفندية على الرغم من أنّ تاريخ كتابة هذا الكتاب "الأفندية.. ومفاهيم القومية في السودان" ل د. خالد الكِدْ، يعود إلى العام 1987م، إلا أنَّ الأسئلة الأساسية التي شكَّلت العمود الفِقري للكتاب لا تزال تُسأل حتى يومنا هذا، بذات حساسيتها وأهميتها وحيويتها. ولا يزال السودانيون في رحلة البحث بُغية الوصول إلى إجابة مرضية للهُويِّة السودانية، الذاتية السودانية، القومية السودانية، تعريفنا لأنفسنا، مَنْ نحن؟... ألخ. وهو نفسه ما يُعطي الكتاب أهميته التي يستحقها، فهو جهدٌ من ضمن جهود كثيرةٍ حاولت أنْ تُناقش مسألة القومية السودانية، لأنها وَعَتْ تماماً أنَّ عدم الوصول إلى إجابات شافياتٍ، وحلول مقنعةٍ؛ هو بابٌ في ذاته للعنف والحرب، وهو ما حدث منذ ما يسبقُ استقلال السودان، مروراً بالعهود التي تلت الاستقلال، وحتى يوم الناس هذا! في الكتاب مناقشة لسؤال القومية السودانية، وبحث في تنازعاتها الممتدة في السودان بين (العروبة) و(الأفريقية)، حيث تتبّع المؤلف فئة (الأفندية) في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. و(الأفندية) هم الطلاب الذين تلقوا تعليماً نظامياً على يد المستعمر الإنجليزي، وبعدما انتهت فترة الحكم الثنائي دانت لهذه الفئة إدارة البلاد، وبالتحديد الخدمة المدنية بعد الاستقلال وقُبَيْلَه. تساؤلات الكِدْ وخلُص خالد الكِدْ في كتابه إلى أنّ الأفندية، وخصوصاً أفندية الثلاثينيات من القرن الماضي قد بذلت كل الجهود للوصول إلى إجابة لمسألة (القومية في السودان)؛ إلا أنَّهم لم ينجحوا البتة في الوصول إلى إجابة شافية!!! بل وأنّ الباحثين وعلماء السياسة السودانيين لم يهتموا كثيراً بالوقائع السياسية، وبطبيعة الاختلافات بين المجتمعات التي تعيش في الرقعة الجغرافية التي أصبحت بعد العام 1956م تُسمى جمهورية السودان. ؛؛؛ الحكم الثنائي أدخل جرثومة القومية عندما أدى إلى ظهور الأفندية والذين أصبحوا نخبة مهنية وهكذا أمسكوا بمسألة القومية وبدأوا في صياغة المفاهيم المختلفة ؛؛؛ فقط من الاستقراءات والتكهنات في كتاب "الأفندية" ل خالد الكِدْ الأسئلة التي طرحها بعد الاقتتالات الطويلة آنذاك بين الشمال والجنوب والتي انتهت وقتها –مؤقتاً- باتفاقية أديس أبابا 1972م، ويستعرض بعد ذلك فريقان لكلٍّ منهما وجهة نظره. فالفريق الأول يرى بأنَّ التفاوض بين الشمال والجنوب لم يُجدِ، ولم تُحقّق أيُّ حلول دائمة، ويطرح بالمقابل (الحرب) خياراً أوحداً، وفريق ثانٍ يرى بأنّ لا الحرب ولا التفاوض فيه الحل لقضية الشمال والجنوب، فهو لا يعدو كونه إضاعةً للوقت والجهد لا أكثر من ذلك ولا أقل!!! ويستشهد بدورات التفاوض والحرب اللتين لم توصلا إلى حلٍّ. وبالمقابل، يطرح هذا الفريق مباشرة (حلاً سهلاً) في نظره، وهو الانفصال بين الشمال والجنوب! خالد الكِدْ، مؤلِّف كتاب: "الأفندية.. ومفاهيم القومية في السودان" يرى بأنَّ (الانفصال) لن يحل القضية، ويبرّر أهل شمال السودان لن تُحلْ قضيتهم بذهاب أهل الجنوب؛ لأنَّ أول ما ينشأ من خلاف هو الحدود بين الدولتين. ويقول: "أين يا ترى تكون هذه الحدود الجغرافية؟ أين يمكن أنْ تكون الحدود الجغرافية المقبولة لكل الأطراف؟ من هو الذي سيقوم برسم هذه الحدود؟ ومن هو الذي سيقرر ما إذا كانت هذه البقعة أو تلك جنوبية أو شمالية؟ إنَّ بعض الجنوبيين الذين يعتبرون أنفسهم (معتدلين) في أوساط الانفصاليين، يرون بأنَّ حدود دولة الجنوب الشمالية ينبغي أن تكون عند مشارف الخرطوم! مواقف الأحزاب ويصل الكِد إلى أنَّ انفصال الجنوب من شأنه أن يُذكّي بذور المطالبة بالانفصال لدى العديد من الأطراف السودانية المتبقية مثل دارفور وكردفان، وبذات القدر شرق السودان. ويخلص الكاتب إلى أنْ لا الحرب ولا الانفصال سيقودان إلى حلٍّ مقبولٍ يؤدي إلى سلامٍ واستقرارٍ دائمين بين المجموعات المتباينة عرقياً وثقافياً ودينياً في السودان، وأنَّ البديل المتوفر هو الحوار. ويصف الكِد أنّ الحوار الذي يقصده بالدرجة الأولى يجب أنْ يضع تعريف (السوداني) و(القومية السودانية)، لأنّ أي حوارٍ لا تتم الإجابة قبله على سؤال (الهُويّة) و(القومية) ستكون نهايته مجرَّد (مسكّنات) مؤقتة! والحل في نظر الكِدْ في مواجهةٍ حقيقيةٍ لواقع المجموعات السودانية المختلفة في الشمال والجنوب على حدٍّ سواء، وعليهم أولاً مواجهة الصراع بين (العروبة) و(الأفريقية) وصولاً إلى (السودانية)! كما تتبع الكتاب علماء السياسة السودانيين ونظرتهم للقومية السودانية، مدثر عبدالرحيم في كتابه: "الإمبريالية والقومية في السودان"، عبدالخالق محجوب: "مسألة القومية في السودان"، محمد سعيد القدال- ورقة بعنوان: "خلفية تاريخية للحركة القومية السودانية في القرن التاسع عشر". ؛؛؛ جماعة أبوروف لم تنقذها أفكارها التقدّمية من السقوط في قاع الدعوة القحة للعروبية، باعتبار أنَّ مجرَّد شبهة (أفريقية) و(أفريقانية) تُحيل مباشرة إلى (العبد) ؛؛؛ كما عرض الكتاب إلى موقف الأحزاب السياسية السودانية من القومية السودانية والتي انحصرت في موقفين: المطالبون بالاتحاد مع مصر، والقوميون الذين دافعوا عن الاستقلال، لكن حتى هؤلاء القوميون لم يختلف رأيهم فيما يخص القومية السودانية عن جماعة أبوروف المتحسسون من كلمة (سوداني). الهُويّة السودانية اللافت لمن يُقلِّب كتاب: "الأفندية.. ومفاهيم القومية في السودان"، ويمر على ذكر جماعة أبوروف الأدبية، الذين كانوا يرون أن (القومية جزء من العالم العربي، وأنّ غير العرب يجب أنْ يذوبوا في القومية العربية)، بل وستقع عيناه على حساسية الأبروفيين الزائدة من كلمة (سوداني)، باعتبارها تحيل مباشرةً إلى مفردة (العبد) بكل دلالاتها ومحمولاتها السيئة!!! بل إن العديد من عضوية جمعية أبوروف رفض بعد الاستقلال -طبقاً لمذكرات إسماعيل العتباني وهو أحد عضوية الجماعة- رفضوا الحصول على جوازات السفر السودانية، ذلك لأنّه سيُكتب عليها في خانة الجنسية (سوداني)! الواضح هنا واللافت أنَّ جماعة أبوروف لم تنقذها أفكارها التقدّمية (تأثرها بالاشتراكية والديمقراطية)، من السقوط في قاع الدعوة القحة للعروبية، باعتبار أنَّ مجرَّد شبهة (أفريقية) و(أفريقانية) تُحيل مباشرة إلى (العبد) بكل محمولات اللفظة السالبة والمظلمة! واحدة من توصيات الكاتب تصدي السياسيين والباحثين السودانيين بصراحةٍ ووضوح تامين لمسألة (الهُويّة السودانية) ومحاولة الإجابة عن سؤالها. خمسةٌ وعشرون عاماً مرَّت منذ كتابة هذا الكتاب، وإلى الآن ظلَّ السؤال الجوهري والمركزي الذي سأله الكتاب في انتظار إجابة مقنعة وشافية، وفي ذات الوقت ظللنا ندفع أثماناً باهظة وعالية الكُلفة بسبب اعتقاداتٍ غير مجدية، وغير عاقلة، ولا تزال ذات النظرة المدعية هي هي! هل بأعيننا عمش؟ أم ليس في القوم رجلٌ رشيد؟