إن كلية الفنون الجميلة والتطبيقية تأسست منذ وقت باكر بكلية غردون التذكارية في العام 1948، وقد كانت تعرف حينها بمدرسة التصميم، وقد تخرَّج فيها منذ تلك الحقبة البعيدة آلاف التشكيليين والتشكيليات من أبناء العاصمة والولايات. وعلى الرغم من ذلك نجد أن كلمة تشكيلي لا تزال كلمة يستغربها الكثيرون وينظرون إلى الفنان التشكيلي بشيء من الدهشة والغموض، فما هي يا ترى الأسباب التي تقف وراء تلك الفجوة الممتدة بين أهل الفنون التشكيلية والمتلقي. ومما لا شك فيه أن الذين تخرجوا من مدرسة التصميم بكلية غرون كانوا مبشرين ودعاة جمال حملوا همَّ الفن وآمنوا به كرسالة يجب أن تغرس في الأجيال القادمة لإيمانهم العميق بأن حضارة الأمم تقاس بفنونها كما هو معروف. وقام الخريجون الأوائل -يقيناً منهم بهذا الدور السامي- بالالتحاق بوزارة التربية والتوجيه معلمين لمادة الفنون بتلك المدارس، حيث تتيح لهم المهنة بطبيعتها الكثير الذي يخدم رسالتهم. فانطلقوا في المدن والقرى والأرياف يعلمون النشء حب الرسم وفوائده. رواد التشكيليين والتحدي وكان لبعض هؤلاء الرواد الأثر الكبير -لا سيما الذين التحقوا حينها ببخت الرضا وعملوا في شعبة المناهج-فرسموا لنا الكثير مما هو مدخر في أذهاننا يثير الشجون كلما طرق الآذان أمثال: (مريم الشجاعة وزيدان الكسلان وكلب عبدالجليل وأمل وبدر) وأبدعوا أيما إبداع في رسم الشخوص وتكريس تلك الشخصيات في قلوب الأطفال، مما ساعد كثيراً في تحصيل المعلومة وسرعة الحفظ لديهم. ؛؛؛ الخريجون الأوائل التحقوا بوزارة التربية والتوجيه معلمين لمادة الفنون، حيث أتاحت لهم المهنة الكثير الذي يخدم رسالتهم ؛؛؛ ولو نظرنا للفنون التشكيلية -من زاوية هذا المثال التطبيقي- وأثرها الفاعل في الوسائل التعليمية المختلفة تكاد لا تجد سنة من السنين التعليمية إلا وفيها رسمة أو شكل يقرِّب المعنى أو يشرح الفكرة أو يبسط التجربة. إذاً، يمكننا القول -ونحن مطمئنون إلى ما نقول- إن الفنون التطبيقية تحدِّث عن نفسها لأنها عملية يرى الناس الفائدة منها أمام ناظريهم. مثال بسيط لذلك فن التصوير الفوتوغرافي، إذا كنت تريد أن تستخرج جوازاً للسفر لابد لك من صورة تبيِّن شخصك (إذاً، لا حاجة للحديث عن أهمية التصوير هنا). مخزون وجداني أما الضرب الآخر -والذي يبعد الشقة بين التشكيليين والعامة- هو الفنون الجميلة مثال لذلك فن النحت والتلوين والخطوط العربية والخزف، فهي فنون قائمة على تعاطي الفنان مع العمل بمخزون وجداني ينبعث لوناً أو تكويناً أو حرفاً يكون لوحة يترآى للناظر جمالها حسب تعليمه وثقافته ومجتمعه والبيئة التي نشأ فيها. إذاً،الحكم متوقف على المتلقي نفسه. ومن تلك الفنون الجميلة مدارس مختلفة قديمة ليس المقام مقام ذكرها، لكن هنالك من الفنون التجريدية التي يجرد فيها الرسام الأشكال من قوانين الطبيعة المتعارف عليها ويرسم رسوماً تشبه المبالغة في التعبير والإنفعال عند الشاعر وخرق العادة والإنفلات المسموح به، وهذا يجعل من الأشكال والأيقونات غريبة عند النظر إليها وغير مفهومة، وما يرى الفنان أنه تعبير جيد قد يستهجنه المتأمِّل للوحته. وكما إن البلاغة ليس من المحبب فيها قصد الإيتاء بالمحسنات البديعية، فإن التشكيل يجب أن يكون التجريد فيه من واقع انفعال صادق وليس بغرض الإتيان بالغريب فحسب. وأحسب أن كثيراً مما لا يفهمه العامة في التشكيل هو خارج من جلباب البحث عن الغريب وأن كثيراً من التجريد الصادق والإنفلات الوجداني الحقيقي يقع من المتلقي موقعاً حسناً حتى وإن لم يستطع أن يفك طلاسمه وكما يقولون ما يخرج من القلب يقع في القلب. معرض شارع النيل وهنا لابد أن ندلف إلى أهمية دور الدولة في رعاية الفنون وأهلها فليس من الإنصاف أن لا يكرم المبدع إلا بعد رحيله وفي السنتين الماضيتين بدأ ضوء في آخر النفق أوقدته وزارة الثقافة والإعلام، وقامت بخطوة يمكن أن تحسب لها بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين بإقامة معرض على النيل وفي الهواء الطلق يقف فيه المهتمون المتفاعلون مع التشكيليين وهم يرسمون ويلونون ويحضروا ميلاد الكثير من اللوحات على ضفة النيل الخالد، فكان ذلك بادرة جميلة يمكن أن تساعد في سد شيء من تلك الفجوة على عمقها. ؛؛؛ الكثير مما لا يفهمه العامة في التشكيل خارج من جلباب البحث عن الغريب مع إن التجريد الصادق يقع من المتلقي موقعاً حسناً حتى وإن لم يستطع أن يفك طلاسمه ؛؛؛ وما يحدث عندنا في السودان ليس وقفاً عليه فقط، ففي كل الدول حتى المتقدمة منها نجد ذلك الفراغ بين المتلقي والفنان التشكيلي ولكن الاختلاف في مقدار الفجوة واتساعها. ولو حاولنا تلخيص الأسباب التي كونت تلك الفجوة وحاولنا أن نجد لها الحلول الناجعة نجد عاملين أساسيين، الأول: هو في دائرة أهل الفنون التشكيلية أنفسهم، فهم يرون أنفسهم من الصفوة بما يتميزون به من إبداع، فتجدهم ينأون عن العامة ويقفون في برجهم العاجي يتطلعون إلى أنظار المثقفين وأنصاف المثقفين ليتأملوا منتوجهم الفني ويسعون له ومن ثم يقدرونه ويبذلون الغالي والنفيس من أجل اغتنائه. العامل الثاني، فهناك نظرة يعتقدها الكثيرون هي أن الفن التشكيلي إنما هو ضرب من الكماليات وعشق يتباهى به الأرستقراطيون وعِلية القوم بدراية وحب حقيقي أو من أجل التباهي والظهور بمظهر المثقف الحاذق الذي يقدِّر الفنون. ردم الهوَّة أما الشعوب التي ما زالت ترزح تحت وطأة الفقر والعوز ليس حريٌّ بها أن تلتفت إلى الفنون وإلى تعاطيها واغتنائها، ومنطقهم أن العناء في طلب العيش لا يدع لك مجالاً حتى تتذوق الفنون أو أن تنتبه لها، وكان ذلك هو الحال لزمن طويل ولا تزال وجهة نظر الكثيرين. ؛؛؛ نظرة الشعوب التي ما زالت ترزح تحت وطأة الفقر والعوز ليس حريٌّ بها أن تلتفت إلى الفنون وإلى تعاطيها واغتنائها ؛؛؛ الجدير بالذكر هنا، إن ظهور الحاسوب ببرامجه أحدث ما يشبه القفز بالزانة في التعرف على الفنون الجميلة والتطبيقية وردم كثيراً من تلك الهوَّة ولعبت الحاجة إلى التصميم والمونتاج الطباعي فيما يخص المطبوعات بمختلف ألوانها الدور الفاعل في ذلك، وكانت للصحافة وللمطابع قصب السبق، حيث بادرت لحاجتها الماسة في الاستفادة من هذا التطور. كما أن الإنترنت والعولمة قد أتاحا للناس الإطلاع على ثقافة الغير لا سيما في الفنون وفي سبل التعبير عنها وبدأت تتلاشى وتنمحي أمية الكمبيوتر شيئاً فشئياً، وظهرت برامج التصميم والمونتاج التي اجتاحت عالم الصحافة أول ما اجتاحت، فولجت منه وبدأ الناس يتعرفون إلى المصمم الفني والتصميم ويسمعون مفردة القرافيك وأتاح ببرامجه كثيراً من التيسير في عمل المونتاج الفني والطباعي الذي كان يتبع قديماً وعمليات الكولاج (فن القص) السائدة وقتها. تشكيلي متعالٍ والمصمم الفني للصحيفة إنما هو المصمم الإيضاحي الذي يتخرَّج بدوره في قسم التصميم الإيضاحي بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية، القسم المعني بدراسة كل ما له علاقة بفنون التصميم كتصميم الشعارات والبوسترات الدعائية والإرشادية وغيرها وتصميم أغلفة الكتب والدواوين والمجلات بمختلف أنواعها. ؛؛؛ بعض التشكيليين يحبون الانزواء وتتحدّث عنهم أعمالهم وآخرون يعيشون أوضاعاً يعتبرونها من المثبطات التي تقلل من منتوجهم ؛؛؛ ولو أدركنا حقيقة تلك المحاور، لبدأنا في فهم حقيقة تلك الفجوة المترامية بين المتلقي الحذر والتشكيلي المتعالي أحياناً والشاكي من الإهمال في أحيان أُخر، فهناك بعض التشكيليين يحبون الانزواء ولا يتحدثون كثيراً ويحبون أن تتحدّث عنهم أعمالهم وهناك آخرون يشكون من أن الأوضاع التي يعيشون وكيف أنها من المثبطات التي تقلل من منتوجهم الإبداعي. وعلى النقيض يرى البعض أن المعاناة تولِّد الإبداع وأن الفنان كائن متمرِّد يدفعه الغبن والحنق إلى الإنفعال الذي يخرج ويتجسَّد في أعمال فنية رائعة وما بين هؤلاء وأولئك تخرج الأعمال وترى النور عبر الصالات الخاصة وصالات المراكز الثقافية التي بدأت بالإنتشار كذلك في الآونة الأخيرة وهي أيضاً مدعاة للتفاؤل.