الكاتبة: صوفي بيسيس ترجمة: نبيل سعد عرض: آدم مريود الغرب، ذلك الكيان غير المحدد جغرافياً على نحو صارم، الذي ما برح يفرض رؤيته لكيفية سير العالم -ميثاق حقوق الإنسان، الديمقراطية، حق الأقليات، العولمة... ألخ- ما هو؟ كيف تشكَّل وكيف وحّد رؤيته تجاه العالم، وبالتالي جعل من نفسه نموذجاً يُحتذى؟ نبوءة بيسيس هل ما انفك، هذا الغرب، متماسك الرؤية حيال العالم أم ثمة إمكانية لتركيبات جديدة لديها القدرة على القيام بهزات متعاظمة التوحش فيه؟ ثم ماذا عن الآخرين؟ أين وصلت مساعي تعدد الأقطاب في مقابل هيمنة القطب الأميركي الأوحد؟ ؛؛؛ الكتاب تنبأ إبان صدوره بأحداث عظيمة تقع خلال السنوات القادمة، وهو ما حدث بالفعل بُعيد أشهر قليلة (أحداث 11 سبتمبر) ؛؛؛سعت صوفي بيسيس إلى الإجابة على هكذا أسئلة وأخرى مشابهة. لكن قبل ذلك تجدر الإشارة إلى القول إن هذا الكتاب كان قد تنبأ إبان صدوره في أوائل عام 2001م أن أحداثاً عظيمةً ستقع خلال السنوات القليلة القادمة، وهو ما حدث بالفعل بُعيد أشهر قليلة (أحداث 11 سبتمبر2001م). يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء وخلاصة، هي: الجزء الأول: تشكيل ثقافة، وفيه خمسة مباحث هي: مولد الغرب، الغامض في عصر التنوير، يقين يتأصل، الدوام على الرغم من المتمزقات، زمن الهزات الأرضية. الجزء الثاني: العالم وهو سائر على دربه، وفيه أربعة مباحث هي: الوهم الكبير لما بعد الاستعمار، الأسس الجديدة التي تقوم عليها الهيمنة، امتيازات السلطة، بداية النهاية. الجزء الثالث: على جانبي المرآة، وفيه ثلاثة مباحث هي: ثياب الكلي القشبية، هم بعينهم، الآخرون على الجانب الآخر من المرآة. مولد أسطورة الغرب.. ترى بيسيس أن بداية تشكل أسطورة الغرب بدأت بالفعل عام 1492م، أي مع اكتشاف أميركا وطرد اليهود والمسلمين من أسبانيا، حيث تشكّلت هذه الأسطورة تحت شعار مزدوج يتكوّن من الاشتمال والإقصاء؛ ذلك لأنه بينما كان (الفاتحون الأسبان يقومون بعمليات "تفريغ" لما حولوه إلى "عالم جديد" من سكانه، كانت أنتلجنسيا عصر النهضة تولف خطاباً كلياً يضفي المعاني على الإقصاء والاستيلاء -في آن معاً- وإذ هو يفعل ذلك كان يصنع تاريخاً يشكل أيضاً القاعدة الأساسية للفكر الغربي). ؛؛؛ أسطورة الغرب بدأت بالفعل عام 1492م، أي مع اكتشاف أميركا وطرد اليهود والمسلمين من أسبانيا ؛؛؛إذاً، على الرغم من أن آيديولوجية عصر النهضة لم تكن متماثلة في إنتاج وإعادة إنتاج الآخر غير الأوروبي إلا أن خطاب الإمتلاك بالذات بدا متجانساً على نحو مدهش كما يقول صبحي حديدي/ اكتشاف أميركا اكتشاف الإنسان/ حتى حين أخذت استراتيجيته تعبر حدود الخطاب الكاثوليكي/ البروتستانتي. لكن يبقى سؤال كيفية تشكّلت الأسطورة الغربية ذات النزعة الاستيلائية الإقصائية؟ ترحيل الإسلام ترى بسيس أنه في اللحظة التي أعلنت فيها أوروبا إقامة أنظمتها على العقل كمرجعية، شرعت في تشكيل قراءة انتقائية للتاريخ، وبات لديها الحق في الامتياز الوحيد المؤسس لمرجعية العقل؛ أي المصدر الإغريقي- الروماني، حيث محى على إثر ذلك كل تأثر بالحضارة البابيلونية والكلدانية والمصرية والهندية التي نهلت منها بلاد الإغريق، من لدن الفلاسفة الذين سبقوا سقراط إلى آخر أحفاد الإسكندر، كما تم التعتيم على البُعد الجوهري للفترة الهيلينستية التي هي هجين من الثقافة الهيلينية وبلاد الشرق، واُسدل الستار على التعددية الثقافية للإمبراطورية الرومانية. ؛؛؛ التأسيس الآيديولوجي للغرب أدى إلى ترحيل جسدي للإسلام من الأراضي السياسية لأوروبا الغربية، وتواكب معه طرد الفكر اليهودي ؛؛؛كان هذا التأسيس الآيديولوجي قد أدى بالمقابل إلى ترحيل جسدي للإسلام من الأراضي السياسية لأوروبا الغربية، وتواكب معه طرد الفكر اليهودي والمسلم من النطاق الفكري الأوروبي. من النهضة إلى العولمة ثمة دور كبير قامت به أسبانيا اليهودية والإسلامية، ليس فقط في نقل الفلسفة الإغريقية فحسب، بل أيضاً في إعادة تأوليها. ؛؛؛ أوروبا اخترعت لنفسها بعد ذلك حدوداً استبعدت إلى ما ورائها كل ما يُفترض أنه ليس إغريقياً رومانياً أو مسيحياً ؛؛؛كان يجب على أوروبا ما بعد الاستيلاء والطرد أن تعمل على فصله وإعادة رتقه مجدداً تبعاً لما تقتضيه المصلحة. لكن، إذا كان عصر النهضة قد تمكّن من القيام بهذه المهمة، فإن الأمر كله يرجع مرة أخرى إلى دور الإسلام الغربي الذي كان قد مهّد الطريق من خلال المجهود الهائل من العمل لتكييف الفلسفة الإغريقية مع ديانة التوحيد الإلهي، فضلاً عن تاريخ العقلانية المسلمة في القرون الوسطى التي تؤسس الفصل -المشكلة للحداثة بمفهومها في الغرب الآن- بين اللاهوت والفلسفة، الذي وصل قمته في فكر ابن رشد الذي كان قد مهّد الطريق لعلمانية عصر النهضة. اُنكرت حسب بيسيس كل هذه المساهمة ابتداءً من القرن السادس عشر، حيث سعى فلاسفة النهضة إلى صناعة (ماضياً وهمياً في جانب كبير منه وقرروا ماهي مكونات تراثه، واخترعت أوروبا لنفسها بعد ذلك حدوداً استبعدت إلى ما ورائها كل ما يُفترض أنه ليس إغريقياً رومانياً أو مسيحياً). في ثيابٍ جديدة لاتمام النقاء العرقي/الثقافي/الديني توجب القيام بعدة إجراءات، بدأت في عصر النهضة ولم تنته في عصر العولمة وهذه الأخيرة لا ترى فيها بيسيس سوى هيمنة في ثياب جديدة مع تبدل طفيف في العلاقة مع الآخر. في سعي الغرب لإنجاح عملية الاستيلاء قام بأول إبادة جنس بشري في التاريخ وفرض الصليب بالنار بدلاً من الإقناع ؛؛؛لذلك كان يجب بعد طرد العرب واليهود مما كان الأندلس أن تعبر أسبانيا في سنوات قليلة من الإنغلاق الديني إلى الإقصاء العنصري الذي اخترعت على إثره فكرة (نقاء الدم) ابتداءً من عام 1535م، حيث كان على كل شخص يرغب في الحصول على عمل أن يثبت أنه (لا يوجد في أسرته عضو يهودي أو مسلم لمدة أربعة أجيال). استمرت هذه الفكرة لمدة تقارب القرنين ونصف القرن؛ أي إلى أن طهُرت أسبانيا من أي وجود إسلامي متخفٍ. بعدها أضحت المسيحية هي العرق بحيث يصبح هذا النسب المزدوج -النقاء العرقي والمسيحية- مشرعاً لغزو أميركا. وهنا ترى بيسيس أن هناك ضرورة للتذكير بأن الأوروبيين -في سعيهم لإنجاح عملية الاستيلاء- قاموا (بأول إبادة جنس بشري في التاريخ [....] حيث تشير معظم النصوص إلى روح الحروب الصليبية التي كانت تحرك الغزاة، فقد كانوا أكثر ميلاً إلى فرض الصليب بالنار بدلاً من الإقناع). لكن هل يتوجّب على مثقفي عصري النهضة والتنوير تقديم تبريرات لهذه العمليات؟ وكيف ينسجم القول من جهة بحقوق الإنسان وتبرير الغزو والاستيلاء على أراض بعيدة؟ التبرير الناقص لم تعد الحجج الدينية كافية لتبرير الغزو؛ ذلك لأن عدم انتماء الشعوب للمسيحية لم يكن كافياً حقاً لتبرير القضاء عليهم. الشيء الذي دفع المفكرين والعلماء إلى وضع أسس جديدة تقوم عليها شرعية الموت والحياة، لذلك أردفوا حجة تفوق الغازي، حيث هيمن على الرأي الأوروبي القول بأن (صنعت الطبيعة جنساً من العمال وهو الجنس الصيني الذي يتمتع بمهارة يدوية رائعة، دون أن يكون لديه تقريباً أي إحساس بالشرف [...] وجنساً من عمال الأرض هم الزنوج [....] وجنساً من السادة والجنود هم الجنس الأوروبي). ؛؛؛ الحجج الدينية لم تعد كافية لتبرير الغزو؛ الأمر الذي دفع المفكرين والعلماء إلى وضع أسس جديدة تقوم عليها شرعية الموت والحياة ؛؛؛ربما مع هذه الإنثربولوجيا الجسدية في القرن التاسع عشر ولدت التفرقة العصرية الحديثة ذلك التنظير العلمي لتفوق (الأبيض)؛ أي الأوروبي، حيث كثُرت النصوص المؤيدة لها وشارك فيها تبعاً لبيسيس (كل من كانوا يؤمنون بمبادئ لوك ومونتسكيو في القرن التاسع عشر مشاركة حاسمة في تثبيت يقين التفوق وشرعية الهيمنة داخل الضمائر الغربية). ربما تظهر هنا ازدواجية واضحة في النظر إلى الذات والآخر، تتمثل في الحديث عن حقوق الإنسان –الأوروبي- وحقه في انتهاك حقوق الآخرين بغرض الدفاع عن توصيف كلي لهذه الحقوق؛ إذ نجد في إعلان استقلال الولاياتالمتحدة عام 1776م أن (جميع الرجال خلقوا متساوين)، فضلاً عن حصول يهود فرنسا على حق المواطنة وأول إلغاء للاستعباد في عام 1794م غير أن هذا التوجه سرعان ما وُضِعَ داخل حدود مقيدة للغاية. واستمر الحديث عن أهمية نشر/ فرض ثقافة الإنسان الأوروبي على العالم. تمزقات على جدار الهيمنة.. ثمة تركيبات جديدة باتت تشكل تهديداً للغرب موحد الرؤية، من خلال تزايد حصة جنوب شرق آسيا والصين في ميزان التجارة العالمية، حيث أصبح ما نسبته 30% من الإنتاج العالمي تنتجه آسيا. لكن الأهم من ذلك هو أن تجربة آسيا في التجارة العالمية برهنت على أن النظام الرأسمالي لا يتوجب عليه ضرورة أن ينتهي إلى نموذج ليبرالي. ؛؛؛ عوامل كثيرة دفعت بالغرب إلى الاعتراف بأنماط وثقافات خارج مدار الغرب نفسه في مقدورها أن تشكل ملمحاً لآخر ؛؛؛ربما هذا الأمر مضافاً إليه عوامل أخرى دفع بالغرب -حسب بيسيس- إإلى الاعتراف بأنماط وثقافات خارج مدار الغرب نفسه في مقدورها أن تشكل ملمحاً لآخر حيث (لم يعد العديد من بينهم يكتفي بالإقرار بإنسانية الآخر وإنما رأوا فيه تدريجياً المساوي لهم). نهاية الهيمنة ترتبط هذه الإمكانية لدى بيسيس بتشكل بدائل تجعل من نفسها مكونات مشاركة في إدارة العالم الذي تهيمن عليه الرؤية الغربية. لكن ترى بالمقابل أن إعادة تشكيل العالم التي تجري حالياً ما هي إلا خطوط عامة لعلاقات بين الشمال والجنوب لا تعدو كونها وسائل جديدة لمزيد من الهيمنة. ؛؛؛ إعادة تشكيل العالم التي تجري حالياً ما هي إلا خطوط عامة لعلاقات بين الشمال والجنوب لا تعدو كونها وسائل جديدة لمزيد من الهيمنة ؛؛؛لكن بالمقابل، ربما تنتهي التململات التي بدأت تظهر في الغرب نفسه التي لديها رغبة في النزول من قطار التبعية لأميركا بتأسيس بديل لسيادة الغرب على العالم. صوفي بيسيس مؤرخة فرنسية من أصول تونسية وصحفية ورائدة في مجال قضايا المرأة. صدر لها: السلاح الغذائي 1979م، الحدود الأخيرة: العالم الثالث وغواية الغرب 1983م، العرب والمرأة والحرية 2007م.