مرايا؛ اسم المجموعة القصصية الأولى للكاتبة صباح سنهوري، أصدرتها مؤخراً عن دار ميريت للنشر في القاهرة، في 56 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف صمّمه صلاح المر، وعلى ظهر الغلاف تعريف بالكاتبة المولودة في العام 1990م. سياق السرد الجديد التداعي الحر، والانشغال بأسئلة وجودية دون قمع السرد، واللغة المنحازة إلى قاموس واضح وهادئ ودقيق، وجمع مكونات علاقاتها مجرّدة ومقطوعة خارج الفضاء السردي، وتأسيس المكان بالسرد وأحياناً اختزاله حتى يغدو جزءاً صغيراً جداً من الجسد البشري، والحدث المحدد أو اللا حدث! والنهايات غير الحاسمة أو العابرة إلى قصص وأحداث غير مكتوبة؛ جميعها تضع هذه المجموعة القصصية برويّة ودون تكلّف ضمن سياق السرد القصصي الجديد والمعاصر، وتماهياً مع انفتاح النص فإن العنونة المفردة بصيغة النكرة – إلى جانب اسم الكتاب - وَسَمَّتْ ثمانية من النصوص العشرة التي حوتها المجموعة: (غشاء، خطوط، ثورة، دوائر، حواف، عبث، ولادة، تقاطع)، ومعظم هذه العناوين لا تتصل بخيط دلالي مباشر مع محتوى النص بل تمثّل إطاراً دلالياً يمكن لتأويل النص أن يتدفق خلاله، بينما كان هناك عنوان مركّب واحد هو (إلى صديقي كرة الفراء)، إضافة إلى نص (العزلة) الذي أودعته الكاتبة في نهاية الكتاب، في محاولة لتحجيمه - ربما – فهو النص الذي حاز على شهرة واسعة نسبة لفوزه بجائزة الدورة الأولى من مسابقة الطيب صالح للشباب في القصّة القصيرة عام 2009م كما تمت ترجمته إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وكان المخرج الأردني برهان سعادة قد قدّمه في فيلم سينمائي في العام 2013م. ؛؛؛ التداعي الحر، والانشغال بأسئلة الوجود، والنهايات غير الحاسمة أو العابرة إلى قصص وأحداث غير مكتوبة؛ جميعها تضع هذه المجموعة ضمن سياق السرد القصصي الجديد ؛؛؛ تصدير المجموعة ب (آنود) إلى جانب الغلاف، فإن القصص تتقدمها عتبتان نصيتان أُخريان؛ إحداهما إهداء عنونته الكاتبة ب (عَبَق)، والثانية بمثابة تصدير للمجموعة هو كتابة تأمّلية في العبارة التي توجد على المرايا الجانبية للسيارات بأن (الأجسام أقرب مما تبدو في المرآة)، وتقوم الكاتبة باستبدال كلمة (أقرب) بأسماء تفضيل متعددة تُنهيها ب (أكثر) لتصير العبارة (الأجسام أكثر مما تبدو في المرآة) محمَّلة بالإشارات المرعبة والحالمة، وتختار لهذا التصدير عنوان (آنود) وهو القطب الكيمائي الموجب في النضيدة الكهربائية الذي تفقد عنده الذرات إلكتروناتها بقصّة (غشاء) تبتدر المجموعة، لطفل رضيع يولد ويلفّه الموت، دون أن يحقق أمنيته الوحيدة: أن يرى وجه أمه. الشحّاذة التي تعاطت معه بلا مبالاة غريبة بدت أنها استجابة فطرية لقسوة ووحشة عيشها، وهي الوحشة التي أصابت الطفل الرضيع طيلة أيام حياته التي قضاها داخل لفافة قماش كبيرة، أحكموا شّدها عليه حينما مات ودفنوه، فلا فرق جلي بين حياته وموته، وكأنهما موت واحد أو حياة واحدة، يقول الطفل/ الراوي: "لا يوجد فرق بين حياتي الآن وحياتي السابقة؛ لم أرَ وجه أمّي ومتشرنق أنا بقطعة القماش الكبيرة، أجتر معرفتي الثديية السابقة ومصاب بالمرض!". حشود كائنات في إصبع وفي (خطوط) ينتقل الحدث من المساحات الثلاث وخطوطها التي تشكلها مفاصل الإصبع البشري على باطنه، تنتقل إلى شعرة تنمو على ركبة، لتضع حقيقة صادمة للمخاطب الذي يحدّثه الراوي بأن الشعرة "تتغذى على دمائك، هي ستتنفس الصعداء، وأنت ستموت لا محالة!!". بينما يكون الإصبع البشري هو بطل قصّة (ثورة) إذ إن الحدث ينتقل إليه من ضجيج في رأس الراوي ليفصح الإصبع عن حشود من كائنات غريبة صغيرة صفراء اللون تحمل لافتات كتب عليها من دم الراوي "ارحل.. ارحل". وبهذه الطريقة التي تقوم بتفعيل وتحريك صور ومشاهد جامدة لتحيلها إلى سرد مفعم بطاقة الأسئلة. ؛؛؛ الكاتبة تقوم باستبدال كلمة (أقرب) بأسماء تفضيل متعددة تُنهيها ب (أكثر) لتصير العبارة (الأجسام أكثر مما تبدو في المرآة) محمَّلة بالإشارات المرعبة والحالمة ؛؛؛ يجيء نص (دوائر) الذي كتب باقتدار لغوي، مقسَّماً إلى مشهديات هي في الأصل تأمّل وإعادة تأمّل فتاة لصورة نفسها، وهي تستلقي على سرير ذي طلاء متسلّخ يبدو- الطلاء في تسلّخه – كجماعات من النمل! ويختلف المكان إلى مقعد خلفي في سيارة ومثلّث قائم الزاوية، كما يجد الراوي علاقته، مع كائن هلامي له زفير دون شهيق، وعلبة مشروب غازي. شخصيات معقّدة ومضطربة ودونا عن النصوص الأخرى الذي برز فيها الراوي بضمير المذكّر، فإن ضمير المؤنّث المستخدم في نص (دوائر) يظل حاضرا في نص (إلى صديقي كرة الفراء). وهو النص الذي يصعد فيه التداعي بصيغة رسالة غير مكتوبة لكنها موجّهة – عبر مونولوج - إلى كرة الفراء الذي هواسم مجازي لكائن واعٍ يملك رأساً وصدراً ويدين. تشكو له ذات الراوي تخبّطها وخواءها ووحدتها وشوقها، وتسلّمه كيانها كله لكونه ملاذها العاطفي. وبذات حدّة التداعي يجيء نص (حواف) الذي يسرد علاقة حميمة معقّدة لكائن بشري مضطرب مع علبة معجون طماطم. وبشخصية مرتبكة أيضا يكون راوي نص (عبث) في تمرده على مسلّمات قبيلته التي تظن أن السماء هي الإله، والنص لا يقف عند هذا الحد بل يطرح قضية التصورات القاصرة لمعنى الألوهية. وفي نص (ولادة) فإن الراوي ابن لعلاقة غير شرعية بين الأرض وإبليس، ترفضه أمه الأرض فيندهش لفصامه عن نفسه. تراتب زمني وإيقاعية وبانعطاف تقريري حاد يختتم نص (ولادة) برسالة منفصمة عن متن القصّة وموجهة إلى حبيب يسأله الراوي (الكاتبة ربما) عن رأيه في كتابته ويسأله عن الحب ويفصح له عن حب عميق. ؛؛؛ الإصبع البشري هو بطل قصّة (ثورة) والحدث ينتقل إليه من ضجيج في رأس الراوي ليفصح عن حشود من كائنات غريبة صغيرة ؛؛؛ وتحتوي الرسالة – ضمنيا - على معنى تطميني للقارئ الذي قد تفزعه القصص، إذ يقول الراوي لحبيبه "لا تخف؛ إذ إنها مجرد كتابة" بكل ما تحمله العبارة من إشارة مرواغة بأنها (مجرد كتابة)! وهذا المنحى التطميني عمدت له الكاتبة في عدد من النصوص كما دبّجته تصدير الكتاب وهي تقول للمتلقين "لا تنزعجوا وتتململوا فأنا أدّخر (أجمل) و(أروع)". وبانعطاف مشابه لكن أقل حدة يخترق نص (حواف) اقتباس شعري. إلا أنه يعضّد من تماسك القصّة وكأنه وتد في منتصف خيمة، ويستدعى الاقتباس الشعري بتقنية التذكّر التي تسحب البساط من تقنية (الفلاش باك)، وتتواءم تقنية التذكّر مع السرد ذي التراتبية الزمنية التي من الصعب نكران خطيتها إلا أنه يجب الاعتراف بإيقاعيتها. التقاط المفتقد والمنسي في نص (تقاطع) ثمّة رصاصة يراها الراوي تنطلق نحوه، وفي انتظار الرصاصة المحتومة الغاضبة فإن الراوي يفكّر في إجابات لأسئلة تبدو بسيطة لكنها تلح عليه مثل لماذا س لا تساوي ص؟ من المغنون الذين ماتوا هذه السنة؟ ولماذا على مريض الضغط ألّا يأكل الطماطم؟ وغيرها، ويطلب عقل الراوي قطع سكاكر ملونة ويطمح وجدانه أن يرى دب الكوالا! وهكذا تلتقط صباح سنهوري، الغائب والمفتقد وذاك الذي في أقاصي اللاتناول؛ تجمّعه وتنسجه، بجرأة وبثقة، عبر روح ساردة تتعدى المهارات التقليدية، إذ إنها تحرّك بدمية السرد بخيوط غير مرئية، وتتجلّى على مسرحه بلا تهويمات مفتعلة. ؛؛؛ المؤلفة تلتقط الغائب والمفتقد وذاك الذي في الأقاصي؛ تجمّعه وتنسجه، بجرأة وثقة، عبر روح ساردة تتعدى المهارات التقليدية، وتحرّك دمية السرد بخيوط غير مرئية ؛؛؛ وتطل صباح سنهوري من الهامشي والمنسي والمجرّد، لذا فإن الرواة/ الأبطال بلا أسماء، والأماكن ليست سوى استجابة لأنواء السرد لا فضاء جغرافي تدور فيه القصّة، والتواريخ تنتمي لسطوة الذات وليس لحركة المجتمع، والبدايات والنهايات ساهمة نحو صداقة الدلالات: "نهاية حميمة للشاطئ وبداية حنونة للبحر"، كما يصف الراوي التقاء الظفر بجلد الإصبع في قصّة (ثورة)! العزلة.. انبثاقات نفسية وفي مؤخرة الكتاب يحاول نص (العزلة) التواري، وهو النص الذي قدم الكاتبة للمشهد السردي، لأول مرة في العام 2009م وباعتراف نقدي مؤكد، على الرغم من انتقادات جمّة للجنة تحكيم جائزة الطيب صالح للشباب في القصّة القصيرة حينها، إلا أن الرهان ظل رابحا لنص (العزلة) إذ أثبت جدارة محتواه الفني على مدى السنوات الخمس الماضية فحظي بعدة احتفاءات. منها أنه خرج إلى الترجمة وعرج إلى السينما. في (العزلة) فإن الراوي وحيد.. وحيد، في بلدة ما، وحيد حتى من عنكبوت أو نملة واحدة، ينهض من على طاولة يجوب البلدة بحثا عن الآخرين.. ؛؛؛ (العزلة) قدمت الكاتبة للمشهد السردي، وباعتراف نقدي مؤكد، والرهان على النص أثبت جدارة محتواه الفني على مدى السنوات الخمس الماضية فحظي بعدة احتفاءات ؛؛؛ عن الحياة، يتحايل بأن ينقسم على نفسه انقساما خياليا إلى (أنا) و(هو)، يطمع المنقسم عنه في حاجاته وطاولته الرؤومة، يتخلّص من المنقسم عنه، يعود واحداً وحيداً، كأنه (كائن حقير، تافه، لزج، وحيد الخلية)، يتمدد على طاولته التي كادت خلايا نخاعه أن تنبني عليها. الرحلة/ الجولة في البلدة، في نص (العزلة) مفعمة بسيل منالانبثاقات النفسية لكائن لا يشتهيه الموت. إرباك الضمير النقدي قبل أعوام ثمة حوار مع صباح سنهوري، أجراه مأمون التلب، على صفحات ملف تخوم الثقافي بصحيفة (الأحداث)، خُتِم بسؤال حول ما الذي ستفعله صباح في المستقبل – قاصدا مستقبل كتابتها. وكانت جفوة عابرة قد اعترتها مع الكتابة عقب فوزها بالجائزة، أجابته بأن "الكائنات التي تعيش في ذلك العالم تعرفني جيّداً وتحبّني، متأكدة، وستساعدني على إيجاد طريقٍ"، و(ذلك العالم) هو الذي تنعكس عليه الكائنات البشرية افتراضا. المجموعة القصصية (مرايا) تبدو ترجمة للإجابة في العالم المُدْرَك. رغمها لا بد من الإشارة إلى أن كتابة التداعي في ارتهانها إلى ذات ساردة عالمة ومقتدرة، تتنقل في تضاريس سيكلوجية ومجتمعية غاية في الصعوبة. كما على لغتها أن تفلت من هاوية الشعر والتقريرية والخواء. وهو ما نجحت فيه صباح بامتياز في كتابها الأول، لكن الأسئلة تتقد حول مستقبل هذه التجربة، ليس لحداثتها فقط، بل لأن هذا النوع من الكتابة ما زال مربكاً للضمير النقدي وإن أسعد وجدان القارئ.