في خضم معركة الإجلاء بين الحكومة السودانية وقوات اليونميد، والتي ما زالت تأخذ طابع المد والجزر رغم تعثر خطى اليونميد وأخطائها في تابت ومحلية كأس، ووسط نذر الحرب الأهلية التي يوشك جنوب السودان أن ينزلق إليها. والأخرى في الصومال التي انزلق إليها بالفعل، وسط هذه المناخات الأمنية والسياسية المواتية يصبح السؤال مشروعاً عن قوات أفريقيا للتدخل السريع وعمليات حفظ السلام في القارة الأفريقية التي تم إنشاؤها لمثل هذه الأغراض ولمّا تختبر بعد بصورة كافية؟ ويبدو أن التساؤل يكتسب مشروعية إضافية استناداً على تساؤل مماثل صدر من الفريق أول عبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع عشية اجتماعات وزراء الدفاع ورؤساء الأركان لإقليم شرق أفريقيا، الذي عقد بالخرطوم الجمعة الماضية. قال فيه إن الإقليم في حاجة إلى قوات مشتركة لتوطين السلام، واعتبر ذلك هدفاً مشتركاً لدول القارة الأفريقية، انطلاقاً من التحديات الكبيرة التي تواجه القارة الأفريقية. واستدل بالصراعات التي اندلعت في دولة جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا، فضلاً عن الاعتداءات على المواطنين العزل في كينيا والسودان. وجدد وزير الدفاع إدانة السودان لتلك الانتهاكات الإرهابية، وشدد على أن دول القارة الأفريقية في حاجة ماسة إلى العمل المشترك عبر السبل السياسية والأمنية لتحريرها من الصراعات. التأثير السالب للتمرد وأضاف حسين، إن التأثير السالب للحركات المتمردة تجاوز السودان للدول المجاورة وأضر بأمنها، حيث انتشر السلاح وتعطلت المصالح التجارية وحركة تنقل المواطنين بين الدول. " وزير الدفاع السوداني: التأثير السالب للحركات المتمردة تجاوز السودان للدول المجاورة وأضر بأمنها، حيث انتشر السلاح وتعطلت المصالح التجارية وحركة تنقل المواطنين بين الدول " وأكد تمسك بلاده بسياسة حسن الجوار ومبدأ عدم التدخل في شؤون الغير، ودعا إلى ضرورة تضافر الجهود السياسية والأمنية والتنموية، لتحرير القارة الأفريقية من العنف والصراع وجعل التنمية حقيقة ماثلة في المنطقة. وقال "إن المرحلة الأهم من تشكيل القوة المشتركة تحققت بعد توفر الإرادة السياسية لمجموعة دول المنظمة". والقوات الأفريقية المرجو منها حفظ السلام والتي تساءلنا عنها مع وزير الدفاع، تم التأسيس لها عبر توزيعها على المناطق الجغرافية للقارة (شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً). لكن من الواضح أن قوات حفظ السلام لشرق أفريقيا -التي يعتبر السودان إحدى اهم الدول المساهمة فيها- من أهم الألوية والقوات، نظراً إلى الخصائص الجيوسياسية للإقليم وموقعه الاستراتيجي، إلى جانب المشاكل والأزمات التي ترزح دوله تحت وطأتها بما يمكن أن تمثل النموذج المطلوب للتدخل وتأكيد فعالية هذه القوات الأفريقية. وقد سرد وزير الدفاع نماذج لها، وإذا أفلحت هذه القوات في تجسيد النموذج المطلوب، فإنه بلا شك سيبعد عن القارة الأفريقية شبح التدخل الخارجي ويجعلها في غنى عن طلب مساعدة قوات دولية تدفع بها الأممالمتحدة، وبل ويمكن أن يسهم هذا النموذج الأفريقي المنتظر بتقديم مساعدات إلى خارج القارة -إذا سمحت اللائحة بذلك-. سيناريوهات متعددة مذابح رواندا والإبادة الجماعية التي حدثت فيها ومقتل ما يقارب من المليون شخص خلال فترة وجيزة، لا تتجاوز المئة يوم، وانتقال نطاق العنف وأثر المذابح إلى بعض الدول المجاورة، يبدو أنها كانت الملهم للأفارقة في التفكير نحو إيجاد قوات وألوية لحفظ السلام في القارة الأفريقية وفق خطط وسيناريوهات متعددة، لا تصل إلى مرحلة التدخل العسكري والنشر للقوات إلا في مرحلة السيناريو الأخير المفترض والذي يطلق عليه اسم السيناريو السادس. أما السيناريو الأول، فأساسه تكوين بعثة يتم انتدابها من الاتحاد الأفريقي أو المنظمات المتفرعة عنه في الأقاليم الأفريقية وتضطلع بتقديم المشورة العسكرية لبعثة سياسية موجودة أصلاً. ويقترب السيناريو الثاني من نموذج اليونميد ولا يضاهيه، إذ ينص على تكوين بعثة مراقبين من الاتحاد الأفريقي أو المنظمات الإقليمية يتم نشرها مع بعثة تابعة للأمم المتحدة. وبتجاوز السيناريو الثالث والرابع، فإن السيناريو الخامس ينص على نشر قوات حفظ سلام تابعة للاتحاد الأفريقي بغرض تنفيذ عمليات حفظ سلام تتضمن البعثة وحدات عسكرية قادرة على الانتشار في خلال ثلاثين يوماً، مع إمكانية اكتمال بقية البعثة في غضون تسعين يوماً، ولهذا السيناريو متطلباته ودواعيه. إذا كانت المذابح وأحداث العنف هي التي ألهمت الأفارقة لتكوين قوات حفظ السلام، فإن التجارب الدولية التي استن بها الأفارقة لا تجعل طبيعة هذه القوات عسكرية صرفة، إذ إن نشر قوات عسكرية صرفة يضفي على المهمة الطابع العسكري الكولينيالي وهو طابع يفاقم الوضع ولا يحفظ السلام، لذلك جاء تكوين هذه القوات من الجيش والشرطة والعناصر المدنية. المكون المدني الأهم التكوين المختلف بل والمختلط يحتم تنويع المهام بين توفير القدرة الكافية على الانتشار السريع والتدخل الوقائي ودعم وحفظ السلام في الإقليم, وتتم إدارة هذه القوات من الاشتراكات للدول الأعضاء بالتعاون مع الاتحاد الأفريقى والمنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة. وهنالك خبراء ومستشارون مهمتهم التطوير وتنمية القدرات وإعداد الخطط والسياسات اللازمة لعمل القوات بكافة مكوناتها العسكرية والشرطية والمدنية، وذلك للجاهزية اللازمة للتدخل في فض النزاعات والسيطرة على مجريات الأحداث خاصة في شرق القارة. المدهش في قوات حفظ السلام الأفريقية، أن المكون المدني من أهم عناصر تكوين قوات التدخل السريع، لكن هذه الأهمية لا تنفي أن المكونات الأخرى تشاركه في إعداد السياسات والخطط التكاملية. ويشمل المكون المدني كافة الوظائف المدنية خاصة عمليات إعادة الدمج للمجتمعات، ولكن لا بد من توافر الخبرة اللازمة لأفراد المكون المدني خاصة في كيفية التعامل مع مجريات الأحداث المتزايدة في عمليات حفظ السلام. وأصبح دوره محورياً ومتعدد المهام والتكاليف والأبعاد ذات الجانب الإنساني والسياسي والتنموي، بالتزامن مع الأنشطة المختلفة التي يؤديها كلٌّ من المكونيين العسكري والشرطي اللذين يكملان بدورهما نجاح بعثات حفظ السلام. سألت أحد المسؤولين السودانيين في المكون المدني عن السر في التعويل على العنصر المدني في مهام ذات صلة بحفظ السلام والأمن؟ فأجابني بأنه عادة ما تكلف العناصر المدنية بالوظائف الإدارية العليا في البعثة مثل رئيس البعثة ونائبه، ومنسق الدعم والمسؤول السياسي، فضلاً عن كل الوظائف المدنية الأخرى. وأضاف إلى معلوماتي أن مهام المكون المدني في البعثة تتنوع حسب نوع البعثة والموارد المتوفرة لها، ويقوم بكل الوظائف المتعلقة جوانب الشؤون السياسية، والتخطيط والتنسيق، والاستشارات القانونية، وحقوق الإنسان، والانتخابات، وحقوق الأطفال، والمساعدات الإنسانية، والانذار المبكر، بالإضافة إلى الإعلام والصيانة ودعم البعثة. وبما أن المكون المدني يشكل العنصر الأوسع انتشاراً في بعثات حفظ السلام، فضلاً عن تنوع الوظائف التي يشغلها هذا العنصر ابتداءً من أدنى العاملين في البعثة إلى أعلاهم (رئيس البعثة). لذلك، فإن الفئات المستهدفة من هذه الشريحة تشمل كل القطاعات ذات الصلة بعمليات حفظ السلام. (لتقريب الصورة بالنسبة للقارئ فإنه يمكن الإشارة إلى القيادة المدنية لبعثة يونميد في دارفور إبراهيم قمباري، بن شمباس، جبريل باسولي). المرحلة العملياتية كل هذا الحكي -بلغة أهل الشام- يفاقم الأسئلة ولا يجيب عليها إذا عُلم أن لواء حفظ السلام لشرق أفريقيا تم تأسيسه منذ 2007، وبدأ العمل التدريبي والتجهيزي له في العام 2009، وأجرت هذه القوات بروفات كبيرة بشأن التدريب عملياً على حفظ السلام بصورة متكاملة ومصحوبة بمعدات ضخمة عسكرية وشرطية ومدنية، كانت البداية بجيبوتي 2010، وتلتها بروفة أخرى ضخمة في السودان 2011، وبروفة ثالثة في يوغندا 2012، ورابعة في إثيوبيا 2014. " القادة الأفارقة الذين تفتقت ذهنيتهم عن إنشاء قوات لحفظ السلام بالتركيز على شرق أفريقيا، بحاجة إلى اختبار إرادتهم السياسية باتخاذ قرار قوي بنشر هذه القوات وفق السيناريوهات المرسومة " بروفة أديس أبابا التي تعتبر الأحدث في سياق البروفات جاءت بغرض بلوغ مرحلة الجاهزية الكاملة تمهيداً للانتقال للمرحلة العملياتية في مهام حفظ السلام، وتم عقد تمرين مراكز القيادة وذلك للتأكد من وصول الآلية لمرحلة الجاهزية الكاملة، حيث استهدف التمرين قياس أداء مراكز القيادة ورئاسة البعثة لأي مهمة حفظ سلام محتملة مستقبلاً. وسبق قيام التمرين سلسلة من الأنشطة التي استهدفت الإعداد الجيد للتمرين لضمان تحقيق الأهداف التي أقيم من أجلها وشملت هذه الأنشطة ثلاث مؤتمرات إعدادية بأديس أبابا ويبدو من واقع هذه التمارين والبروفات، أن هناك علامة رضا من القادة العسكريين والشرطيين والمدنيين على حسن الإعداد والتجهيز... هاتفت د. فيصل المحجوب مسؤول المكون المدني السوداني الذي شارك في هذه البروفات وسألته عن حقيقة هذه القوات. أجابني بحماس، أن هذه القوات جاهزة لأداء مهمتها في أي منطقة بشرق أفريقيا، وقد أجرت هذه البروفات للاطمئنان بالفعل على هذه الجاهزية، وهي بروفات شملت اختبار مسيرة واستعداد قوات شرق أفريقيا نحو الجاهزية العملياتية الكاملة بنهاية العام 2015. وهدفت إلى تمرين واختبار جاهزية القوات استناداً على أهداف الاتحاد الأفريقي وعقيدته التدريبية، ومعالجة سلبيات التمارين السابقة وتقوية الجوانب الإيجابية، وتدريب واختبار القوات في عمليات التخطيط، التزاوج، الانتشار، وإدامة قوات متعددة الجنسيات وألاطراف بناءً على تفويض الاتحاد الأفريقي حسب الرواية الخامسة، وترقية التعاون بين مكونات القوات (عسكريون، شرطة ومدنيون). وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء والتوعية بدور القوات الأفريقية على المحيط الإقليمي والقاري. د.المحجوب أشار إلى أن السودان نفسه له دور فعال في لواء شرق أفريقيا ويتم تصنيفه على أنه من الدول المؤثرة في هذه المجموعة، وأنه شارك في تأسيس اللواء والدورات التدريبية والإعدادية بالمكونات الثلاثة المدني والشرطي والعسكري، وهي مشاركات تمت بالتناوب بين بلدان شرق أفريقيا. وأضاف إلى معلوماتي أن السودان خلال التمرين الأخير بإثيوبيا شارك بخمس عناصر من المكون المدني وهي قليلة مقارنة بالفرص التي منحت لمعظم الدول الأخرى، وعلى الرغم من ذلك كانت مشاركة المكون المدني فاعلة وتلقت الإشادة من رئاسة الآلية.. وكدليل على أهمية هذه التمرينات فقد شرف الحفل الختامي رئيس الوزراء الإثيوبي تعبيراً عن الاهتمام الذي تلقاه الآلية باعتبارها الضمان الأساسي للاستقرار والتنمية في المنطقة. قلت للسيد المحجوب: طالما أن هذه القوات أفرطت في تمرينات الاستعداد حد الرضا، فلماذا ترزح دول الإقليم في الحروب والنزاعات، في نفس الوقت الذي تجري فيه هذه القوات في تمارين الإحماء والاستعداد لظروف يبدو أنها لن تكون أسوأ مما تشهده دول الإقليم الآن؟ هذا السؤال الكبير أجابني عليه بصورة مبسطة: نحن فقط بانتظار قرار سياسي من الاتحاد الأفريقي. من واقع إجابة د. المحجوب، بل من الواقع نفسه، فيبدو أن القادة الأفارقة الذين تفتقت ذهنيتهم عن إنشاء قوات لحفظ السلام بالتركيز على شرق أفريقيا، بحاجة إلى اختبار إرادتهم السياسية باتخاذ قرار قوي بنشر هذه القوات وفق السيناريوهات المرسومة على دول الإقليم المكلومة، فمتى يتخذون هذا القرار.