كانت أمدرمان في أربعينيات القرن الماضي، مدينة تموج بالعاطفة الوطنية، وتملأ الذاكرة السودانية برموز قومية سعت بدرجات متفاوتة لنيل استقلال السودان، وسيطر على الساحة وقتها تياران رئيسيان، أحدهما الاستقلالي والآخر الاتحادي. وليس ثمة شك في أن كفاح هذا الجيل الذي حكى قصته أحمد خير، كان الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري من حداة ركبه وبناة مجده وقادة زحفه إلى العلا وطلائع السمو به إلى الذرى الشامخات. وكانت رياح الحرب العالمية الثانية قد وعدت الشعوب المستعمرة، بآمال تقرير المصير، فقد سارع مؤتمر الخريجين بتقدم مذكرة في العام 1942 كممثل للشعب السوداني، لكن الإدارة البريطانية لم تكتفي بصده بقوة وحرمانه من هذا الحق، بل قطعت هذا الطريق أمام مؤتمر الخريجين، بإصدار قانون المجلس الاستشاري لشمال السودان في عام 1943. وفي تلك الأثناء اختير الرئيس إسماعيل الأزهري أول رئيس لحزب سياسي ينشأ في السودان، حزب الأشقاء الذي أسسه يحيى الفضلي وتسعة من أصدقائه منذ عهد الدراسة. تقرير المصير " الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري تزوج في العام 1942 السيدة مريم مصطفى سلامة التي أسلمت الروح إلى باريها في مارس الماضي بمنزل الأزهري في أمدرمان عن 91 عاماً قضتها في خدمة الزعيم وأسرته والوطن " وتزامن هذا الاختيار مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت انتشاراً واسعاً للحركة الوطنية السودانية، حيث تصدرت قضية موضوع تقرير مصير البلاد على قمة أولويات العمل السياسي. وترتب على هذا ازدهار حركة الوفود المتجهة إلى الخارج وتشكيل الأحزاب السياسية وقيام الاتحادات المهنية. على أن المهم في ظل هذه التداعيات الإشارة إلى أن الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري كان يتميز على أقرانه بالإلهام والنفاذ للمستقبل ببصيرته، فإن هذه الفترة قد شهدت أيضاً حدثاً مهماً في حياة الأزهري على الصعيد الشخصي، حيث تزوج في العام 1942 السيدة مريم مصطفى سلامة التي أسلمت الروح إلى باريها في مارس الماضي بمنزل الأزهري في أمدرمان عن 91 عاماً قضتها في خدمة الزعيم وأسرته والوطن. نشأة دينية ولدت الراحلة مريم بمدينة أم روابة في العام 1924، وتعود أصولها إلى مصر. ووالداها نسيبة مصطفى قابل ومصطفى سلامة أغا الذي عمل (صرافاً) في حكومة السودان، وتنقل بين مختلف أقاليم السودان. نشأت الراحلة مريم نشأة دينية، وتعودت منذ صغرها أن تصوم يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، كما تصوم أول شهر رجب، والسابع والعشرين منه، وتصوم أيضاً أول شعبان ونصفه، وتصوم يوم عرفة. وأدركت من أسرتها ما لصيام هذه الأيام المباركة من خير وبركة، فقد كان والدها متديناً، يرتل جزءاً من القرآن الكريم مع صلاة الفجر يومياً، وعند نهاية الشهر يختم القرآن الكريم ليبدأه من جديد. ورزق الأزهري من الراحلة مريم بولد واحد هو محمد الذي توفي إثر حادث مروري عام 2006، وخمس بنات هن: آمال متزوجة من د. معتصم حبيب الله، سامية كانت متزوجة من العميد مهندس عثمان أمين ثم الكابتن بحري حسن شريف، سمية متزوجة من الأستاذ الشاعر الفاتح حمدتو، سناء متزوجة من المصرفي كمال حسون، وجلاء متزوجة من أ.د. عبدالرحيم كرار. أسماء الأنبياء " الراحلة مريم تمُت بصلة القرابة لكل من د. جمال العطيفي السياسي المصري المعروف، فهو ابن عمها،ود. صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق، زوج ابنة عمها ،ولم تتخلل مراسم زواج الأزهري احتفالات كثيرة مثلما جرت العادة في تلك الأيام، ولم يتحنن نسبة لوفاة والدته " وللراحلة مريم أشقاء أطلق والدها أسماء الأنبياء عليهم وهم: يوسف مهندس معماري، زكريا طيار، عيسى سفير، موسى مقاول، ومحمد مهندس. ولها شقيقات هن: درية، نعمات، وسميرة وهي أديبة لها قصتان منشورتان: الأولى بعنوان: (الضفة الحزينة) والثانية (عدالة السماء). وتمُت الراحلة مريم بصلة القرابة لكل من د. جمال العطيفي السياسي المصري المعروف، فهو ابن عمها، ود. صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق، زوج ابنة عمها. لم تتخلل مراسم زواج الأزهري احتفالات كثيرة مثلما جرت العادة في تلك الأيام، ولم يتحنن نسبة لوفاة والدته. حين انتقلت الراحلة مريم إلى حي المسالمة، لتسكن في منزل أسرة الأزهري كانت وصية والدتها (دعي زوجك يمارس حقوقه نحو أسرته بل ساعديه على أدائها). كما أوصتها ب(القناعة وعدم الالتفات لما يملك الآخرون، وأنها لم تعد في دار والدها تتسلى، بل هي أصبحت زوجة والزواج مسؤولية). خرجت الراحلة مريم من أسرة متدينة لترتبط بأسرة أخرى متدينة، ولذا كانت تجمع أولادها مثلما كان يفعل والداها وتقرأ عليهم (دعاء الرزق الحلال والعافية والعمر المديد)، خاصة بعد إفطار نصف شعبان. تعليم الفتيات كان تعليم الفتيات في تلك الأيام ينتهي بإكمال مرحلة كلية المعلمات، حيث تؤهل الفتاة للتدريس، لكن والد السيدة مريم كان يؤمن بتعليم الفتاة وليس بعملها، وترتب على هذا أن واصلت دراستها بالمنزل على يد المربية الفاضلة الست وديعة شديات التي تعلمت منها الكثير الذي أفادها في حياتها. من صور ذكريات الطفولة الأولى الراسخة في ذهن الراحلة مريم، صورة احتفال المولد في أبو تيج في صعيد مصر، حيث تعود جذور الراحلة مريم إليها، وجد والدها هو السلطان الفرغل صاحب الكرامات المشهور. كانت زفة المولد تبدأ عشية ليلة الخميس، بتحضير توابيت المشايخ من المناطق المجاورة محمولة على ظهور البعير. وتضع تلك التوابيت أمام جامع الفرغل، ومع فجر الجمعة يخرج تابوت الفرغل من جامعه ومن خلفه تابوت الوزير أبو حسين، ثم تابوت مخيمر حواره وابن عمه. بعد ذلك، تسير سلالة الفرغل التي ترتدي الشارات الخضراء اللامعة ومن خلفها الموسيقى، ثم تبدأ مسيرة بقية التوابيت التي يصل عددها زهاء 85 تابوتاً. وتمضي هذه المسيرة بزفة الموسيقى من بداية أبو تيبح حتى نهايته لتعود من جديد لجامع الفرغل، حيث تتفرق. وكان احتفال المولد هذا كرنفالاً من الفرح الموسمي. تحرير السودان " في بداية حياتها الزوجية كانت الراحلة مريم تتعرض لسقوط الحمل،لكنها كانت تحس بالأمومة نحو أخت الأزهري الصغرى أم المكارم، فقد كانت بنتها التي ربتها قبل أن ترزق بأبناء وظلت تناديها بأمي " كان زواج الراحلة مريم من الأزهري مسؤولية كبيرة في حياتها، فقد كانت زوجة لرجل تمنى أن يحرر السودان، ونجح في تحقيق أمنيته. في بداية حياتها الزوجية كانت الراحلة مريم تتعرض لسقوط الحمل، لكنها كانت تحس بالأمومة نحو أخت الأزهري الصغرى (أم المكارم)، فقد كانت بنتها التي ربتها قبل أن ترزق بأبناء وظلت تناديها ب(أمي). لم تكن الراحلة مريم بعيدة عن عالم الأزهري السياسي وكواليس مؤتمر الخريجين، فقد كانت تلم بكل شيء عن اجتماعاته بنادي الخريجين، خاصة تلك الاجتماعات التي تعقد في دار الأزهري. ولذا كانت مساهمتها من نوع آخر، إذ كانت تتوقع الضيوف، وتحتفظ دائماً ببعض وجبات الطوارئ الجافة مثل: الفول السوداني، الحمص، البلح، والبسكويت. لم يقتصر استعداد الراحلة مريم على أسرتها فحسب، إذ كان الأزهري يتناول الطعام في المنزل مع بعض أصدقائه. وهكذا هيأت السيدة مريم منذ بداية حياتها نفسها ودارها لاستقبال زملاء الأزهري في المنزل في أي وقت. ثم تطور هذا الاستعداد لاستقبال زملاء الأزهري إلى نهج في استقبال كل صاحب حاجة أو غيره، يقصد الأزهري في منزله. شعارات الحرية " عندما جاءت الراحلة مريم بكوب الشاي لم تجد الأزهري وتلفتت يميناً ويساراً وقبل أن تسأل، أجاب والد الأزهري بقوله حضر أبارو وقال له أنت مطلوب وخرج ليقضي أربعة شهور في السجن " في بداية حياة الراحلة مريم الزوجية كانت شعارات الحرية والاستقلال تملأ حياة الناس في تلك الأيام، وترتب على هذا أن أصبحت الندوات السياسية والاجتماعات والمظاهرات سمة أساسية في حياة الناس. وكان الأزهري وقبل بداية مسيرة المظاهرة يخطب في المتظاهرين بأعلى صوته (كلنا يعلم أن الإنجليز لا يملكون حجراً واحداً في بلادنا، إنهم لا يملكون سوى ملابسهم وسيخرجون بها إن شاء الله، وعليه فلا مكان للتخريب). ولم يكن هنالك مجال للتخريب، فقد كانت التظاهرات سلمية، وهناك طرفة تفيد أن شرطياً برتبة صول صرخ بعد أن أنهكته عملية ملاحقة المظاهرات وتفريقها، قائلاً (أولادكم ديل جننونا زي المدسترين طول الوقت أحرار، أحرار، أحرار). وتحفظ ذاكرة الأحداث، أن الأزهري عاد منزله بعد تفريق إحدى المظاهرات وطلب كوباً من الشاي الخفيف وكان يومها والده يقف بالقرب منه. وعندما جاءت الراحلة مريم بكوب الشاي لم تجد الأزهري وتلفتت يميناً ويساراً وقبل أن تسأل، أجاب والد الأزهري (حضر أبارو وقال له أنت مطلوب وخرج ليقضي أربعة شهور في السجن). رحم الله السيدة الفضلى مريم سلامة وأحسن إليها بقدر ما قدمت لزوجها وأسرتها ووطنها من خير كثير.