ليس جديدا أن تحتفي الشعوب العظيمة برموزها التي قدمت لها خدمات جليلة في شتى المجالات ومختلف الميادين. وتذخر الذاكرة السودانية بظهور رموز قومية سعت بدرجات متفاوتة لاستقلال السودان. وظهر تياران رئيسيان في السودان أحدهما هو التيار الاستقلالي والآخر هو التيار الاتحادي، واختلفت السبل وتعددت الوسائل وكانت الغاية في النهاية واحدة إذ اتحدت كلمة التيارين وتوجت كل الجهود برفع العلم على سارية القصر إيذانا بالاستقلال. وكان هذا محصلة جهد جيل بحاله حدثنا عنه الأستاذ أحمد خير المحامي في كتابه (كفاح جيل). وليس ثمة شك في أن ذلك الجيل كان الأزهري من حداة ركبه وبناة مجده وقادة زحفه إلى العلا وطلائع السمو به إلى الذرى الشامخات. وكان مؤتمر الخريجين قد قدم مذكرة 1942 كممثل للشعب السوداني، لكن الإدارة البريطانية لم تكتفِ بصده بقوة وحرمانه من هذا الحق، بل قطعت هذا الطريق أمام مؤتمر الخريجين، بإصدار قانون المجلس الاستشاري لشمال السودان في عام 1943، وقرر المؤتمر مقاطعة المجلس وعدم الاعتراف به، وفصل أي عضو ينضم إلى المجلس. وفي تلك الأثناء اختير الأزهري أول رئيس لحزب سياسي ينشأ في السودان، حزب الأشقاء الذي أسسه يحيى الفضلي وتسعة من أصدقائه منذ عهد الدراسة. وتزامن هذا الاختيار مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت انتشارا واسعا للحركة الوطنية السودانية، حيث تصدرت قضية موضوع تقرير مصير البلاد على قمة أولويات العمل السياسي. وترتب على هذا ازدهار حركة الوفود المتجهة إلى الخارج وتشكيل الأحزاب السياسية وقيام الاتحادات المهنية. وعلى صعيد الإدارة البريطانية اخفقت خطوتها الاستباقية في تشكيل الجمعية التشريعية، إذ قاوم الأزهري ورفاقه مشروع الجمعية حتى اندلعت ثورة 23 يوليو في مصر، وقادت المسألة السودانية في طريق جديد انتهى باتفاقية الحكم الذاتي فبراير 1953. على المهم في ظل هذه التداعيات الإشارة إلى أن الأزهري كان يتميز على أقرانه بالإلهام والنفاذ للمستقبل ببصيرته ومن دلائل ذلك أن الأزهري كان يتحدث مثل الآخرين عن وحدة وادي النيل، إلا أنه كان يركز في حديثه على الاستقلال. وعندما اتحدت إرادة السودانيين أعلن الأزهري الاستقلال من داخل البرلمان، ليثبت أن المراحل التي انطوت قد صاحبتها خطوات تكتيكية كانت معالم على الطريق، على الرغم من أن الأزهري قد كتب مقدمة لكتاب صغير أعده الأستاذ يحيى الفضلى في العام 1946 بعنوان (دفاع عن وحدة وادي النيل). وكتب الأزهري في مقدمته (إلى هيئة المفاوضات المصرية وإلى شيوخ الأمة ونوابها وإلى المجاهدين من أبناء وادي النيل لتحقيق وحدته المقدسة تحت تاج فاروق المفدي نصره الله). والنماذج على قوة الحس الوطني عند الأزهري كثيرة فقد لاحظ أن جدول المباريات المعلق على جدار دار الرياضة في أمدرمان مكتوب عليه عبارة (الوطن ضد الحرية) فأوقف عربته وطلب بتصحيح العبارة وكتابة (الوطن مع الحرية). ومن النماذج أيضا مقولته التي يرددها الجميع حتى الآن: الحرية نار ونور فمن أراد نورها فليكتوِ بنارها. وعبارته الخالدة: إننا نعلم أن طريق الحرية والديمقراطية مليء بحديد وأشواك ونيران، ولكننا بإذن الله سنخترقه، لأننا أقوى من الحديد وأشد فتكا من النيران في الدفاع عن وطننا وحريتنا عندما نضع في الاعتبار المناخ السياسي السائد في الأربعينيات، نلاحظ أن الندوات السياسية لم تكن وحدها هي سلاح تلك الفترة للمناداة بالاستقلال ولا المظاهرات السلمية هي آخر المطاف فى النداء للتحرير. بل كانت مشاركة للفكر والقلم في فضح الاستعمار. وكانت المقالات السياسية ترصد سياسات المستعمر وتبرزها حقائق للمواطنين، فقد كتب الأزهري مقالا عن المجاعة في شرق السودان قدم بسببه للمحكمة. وعندما مثل أمام القاضى قال له: إنك بمثل هذه المواضيع تثير الكراهية. كان رد الأزهري: أنني لا أثير الكراهية على الحكومة، بل أسعى لإنهاء الوضع الحالي في السودان. وكان نصيب الأزهري من هذا الموقف أن مكث شهرين في السجن. وشهدت فترة الأربعينيات أيضا حدثا مهما في حياة الأزهري على الصعيد الشخصي، حيث تزوج السيدة مريم مصطفى سلامة في العام 1942 في أمدرمان. ولدت مريم بمدينة أم روابة في العام 1924، وتعود أصولها إلى مصر، ووالداها نسيبة مصطفى قابل ومصطفى سلامة أغا الذي عمل موظفا في حكومة السودان (صراف) وتنقل بين مختلف أقاليم السودان. نشأت السيدة مريم نشأة دينية، وتعودت منذ صغرها أن تصوم يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، كما تصوم أول شهر رجب، والسابع والعشرين منه. وتصوم أيضا أول شعبان ونصفه، وتصوم يوم عرفة. وأدركت من أسرتها ما لصيام هذه الأيام المباركة من خير وبركة، فقد كان والدها متدينا، يرتل جزءً من القرآن الكريم مع صلاة الفجر يوميا. وعند نهاية الشهر يختم القرآن الكريم ليبدأه من جديد. ورزق الأزهري من السيدة مريم بولد واحد هو محمد الذي توفي إثر حادث مروري عام 2006، وخمس بنات هن: آمال متزوجة من الدكتور معتصم حبيب الله، سامية كانت متزوجة من العميد مهندس عثمان أمين ثم الكابتن بحري حسن شريف، سمية متزوجة من الأستاذ الشاعر الفاتح حمدتو، سناء متزوجة من المصرفي كمال حسون، وجلاء متزوجة من البروفيسور عبد الرحيم كرار. وللسيدة مريم أشقاء أطلق والدها أسماء الأنبياء عليهم وهم: يوسف مهندس معمارى، زكريا طيار، عيسى سفير، موسى مقاول، ومحمد مهندس. ولها شقيقات هن: درية، نعمات، وسميرة وهي أديبة لها قصتان منشورتان: الأولى بعنوان (الضفة الحزينة) والثانية (عدالة السماء). وتمت السيدة مريم بصلة القرابة لكل من الدكتور جمال العطيفي السياسي المصري المعروف، فهو إبن عمها، والدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق، زوج إبنة عمها. لم تتخلل مراسم زواج الأزهري احتفالات كثيرة مثلما جرت العادة في الأيام، ولم يتحنن نسبة لوفاة والدته. حين انتقلت السيدة مريم إلى حي المسالمة، لتسكن في منزل أسرة الأزهري كانت وصية والدتها (دعي زوجك يمارس حقوقه نحو أسرته بل ساعديه على أدائها). كما أوصتها ب (القناعة وعدم الالتفاف لما يملك الآخرون، وأنها لم تعد في دار والدها تتسلى بل هي زوجو اصبحت والزواج مسئولية). خرجت السيدة مريم من أسرة متدينة لترتبط بأسرة أخرى متدينة. ولذا كانت تجمع أولادها مثلما كان يفعل والداها وتقرأ عليهم (دعاء الرزق الحلال والعافية والعمر المديد)، خاصة بعد إفطار نصف شعبان . كان تعليم الفتيات في تلك الأيام ينتهى بإكمال مرحلة كلية المعلمات، حيث تؤهل الفتاة للتدريس، لكن والد السيدة مريم كان يؤمن بتعليم الفتاة وليس بعملها. وترتب على هذا أن واصلت دراستها بالمنزل على يد المربية الفاضلة الست وديعة شديات التي تعلمت منها الكثير الذي أفادها في حياتها. من صور ذكريات الطفولة الأولى الراسخة في ذهن السيدة مريم صورة احتفال المولد في أبو تيج في صعيد مصر، حيث تعود جذور السيدة مريم إليها، وجد والدها هو السلطان الفرغل صاحب الكرامات المشهور. كانت زفة المولد تبدأ عشية ليلة الخميس، بتحضير توابيت المشايخ من المناطق المجاورة محمولة على ظهور البعير. وتضع تلك التوابيت أمام جامع الفرغل. ومع فجر الجمعة يخرج تابوت الفرغل من جامعة ومن خلفه تابوت الوزير أبو حسين، ثم تابوت مخيمر حواره وابن عمه. بعد ذلك تسير سلالة الفرغل التي ترتدي الشارات الخضراء اللامعة ومن خلفها الموسيقى، ثم تبدأ مسيرة بقية التوابيت التي يصل عددها زهاء 85 تابوتا. وتمضي هذه المسيرة بزفة الموسيقى من بداية أبو تيبح حتى نهايته لتعود من جديد لجامع الفرغل حيث تتفرق. وكان إحتفال المولد هذا كرنفالا من الفرح الموسمي. كان زواج السيدة مريم من الأزهري مسئولية كبيرة في حياتها، فقد كانت زوجة لرجل تمنى أن يحرر السودان، ونجح في تحقيق أمنيته. في بداية حياتها الزوجية كانت السيدة مريم تتعرض لسقوط الحمل، لكنها كانت تحس بالأمومة نحو اخت الأزهري الصغرى (أم المكارم) ، فقد كانت بنتها التي ربتها قبل أن ترزق بأبناء وظلت تناديها ب (أمي). لم تكن السيدة مريم بعيدة عن عالم الأزهري السياسي وكواليس مؤتمر الخريجين، فقد كانت تلم بكل شيء عن اجتماعاته بنادى الخريجين، خاصة تلك الاجتماعات التي تعقد في دار الأزهري. ولذا كانت مساهمتها من نوع آخر، إذ كانت تتوقع الضيوف، وتحتفظ دائما ببعض وجبات الطوارئ الجافة مثل: الفول السوداني، الحمص، البلح، والبسكويت. لم يقتصر استعداد السيدة مريم على أسرتها فحسب، إذ كان الأزهري يتناول الطعام في المنزل مع بعض أصدقائه. وهكذا هيأت السيدة مريم منذ بداية حياتها نفسها ودارها لاستقبال زملاء الأزهري في المنزل في أي وقت. ثم تطور هذا الاستعداد لاستقبال زملاء الأزهري إلى نهج في استقبال كل صاحب حاجة أو غيره يقصد الأزهري في منزله. في بداية حياة السيدة مريم الزوجية كانت شعارات الحرية والاستقلال تملأ حياة الناس في تلك الأيام، وترتب على هذا أن أصبحت الندوات السياسية والاجتماعات والمظاهرات سمة أساسية في حياة الناس. وكان الأزهري وقبل بداية مسيرة المظاهرة يخطب في المتظاهرين بأعلى صوته (كلنا يعلم أن الانجليز لا يملكون حجرا واحدا في بلادنا، أنهم لا يملكون سوى ملابسهم وسيخرجون بها إن شاء الله، وعليه فلا مكان للتخريب). ولم يكن هنالك مجال للتخريب فقد كانت التظاهرات سلمية، وهناك طرفة تفيد أن شرطياً برتبة صول صرخ بعد أن أنهكته عملية ملاحقة المظاهرات وتفريقها قائلا (أولادكم ديل جننونا زي المدسترين طول الوقت أحرار، أحرار، أحرار). وتحفظ ذاكرة الأحداث أن الأزهري عاد منزله بعد تفريق إحدى المظاهرات وطلب كوبا من الشاي الخفيف وكان يومها والده يقف بالقرب منه. وعندما جاءت السيدة مريم بكوب الشاي لم تجد الأزهري وتلفت يمينا ويسارا وقبل أن تسأل، أجاب والد الأزهري (حضر أبارو وقال له أنت مطلوب وخرج ليقضى أربعة شهور في السجن). [email protected]