تعامل النقاد الفنيون والرقباء الأمنيون – في بعض عهود الحكومات الوطنية – بحذر شديد وتمحيص كبير مع مفردات الشاعر سعدالدين إبراهيم الغنائية ولم يضعوا كلماته في الموضع المناسب لها. ولعل بساطة كلمات الراحل سعدالدين وصدقها وسرعة انتشارها بين الناس هي ما لفتت النقاد الفنيين والرقباء الأمنيين على حد السواء لمفرداته وجعلت الخلق يسهر جرّاها ويختصم. أول أشعار الشاعر سعدالدين إبراهيم التي فاحت منها رائحة السياسة وأصر الرقيب الأمني في سبعينيات القرن الماضي على كونها أغنية سياسية هي أغنية (حكاية عن حبيبتي) التي تغنى بها الفنان القامة أبوعركي البخيت. وبدأ مطلعها بمقطع "عن حبيبتي بقول لكم" أما النقاد الفنيون فقد اعتبروها البداية الحقيقية للشعر الغنائي المعاصر. هذا الوصف لم يعجب شاعر الأغنية بل أحزنه، لأنه أغفل أغنيات كانت جديرة بأن تكون نقلة بالنسبة له –على حد قوله. ومنها أغنيات (أبوي) مروراً ب(العزيزة ) التي تغنى بها أحدعشر فناناً و(حصار) إلى أغنيته (ذكراك) التي تغنت بها الفنانة أسرار بابكر وليس انتهاءً بأغنيته (نهر العسل) التي تغنى بها فنان أفريقيا الأول محمد وردي. نظرة ظالمة اعتبر الشاعر سعدالدين إبراهيم ما حكم به النقاد الفنيون لنصه "حكاية عن حبيبتي" باعتباره بدايته الفنية هو محض نظرة ظالمة لتجربته الشعرية الغنائية. فلم تكن تجربة سعدالدين كشاعر غنائي تشبه تجربة شعراء حقيبة الفن ممن التقى بهم وصادقهم من أمثال الشعراء إبراهيم العبادي وعبدالرحمن الريح ومحمد بشير عتيق. وعزا سعدالدين اختلاف تجربته عن أولئك بتأثره بالتجربة الشعرية لصلاح أحمد إبراهيم وأمل دنقل ومحمود درويش . وشبّه الشاعر سعدالدين إبراهيم تجربته الشعرية بتجربة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في "الطير المهاجر". وأشار سعدالدين إلى أن تجربته في الكتابة الغنائية عبر حداثة العامية وتقنياتها المتطورة كانت سابقة لتجارب الشاعرين يحيى فضل الله وعاطف خيري. وقد قال سعدالدين عن أسبقيته لخيري وفضل الله في حوار له مع جريدة (الصحافة) بتاريخ 7يناير 2012 (ديل أنا فتحت ليهم الدرب!) واعتبر تجربته ثورة في مجال الشعر . تأويل سياسي اعتبر الرقيب الأمني أغنية "حكاية عن حبيبتي" هي مرثية لحركة 19 يوليو1971 الحمراء التي أُسقطت في مهدها بعد ثلاثة أيام فقط وذلك لوجود مقطع: وكانت أول مرة في عمر المدينة إنو نامت وما حزينة " الرقيب الأمني اعتبر أغنية "حكاية عن حبيبتي" هي مرثية لحركة 19 يوليو1971، وذلك لوجود مقطع: وكانت أول مرة في عمر المدينة.. إنو نامت وما حزينة " ويقول الراحل سعدالدين إن الرقيب الأمني انتقده بأقذع الأوصاف قائلاً: "كونك تحكي عن حبيبتك دي ما رجالة !". وظل الرقيب الأمني ينبش بميكرسكوبه في أشعار سعدالدين بحثاً عن جرثومة السياسة ليخرج من دفتيها بدليل اتهام بحسب – الرقيب الأمني – وقتها وكان المقطع الذي تم إبرازه كدليل اتهام "تحيا.. محبوبتي.. الحنينة". وليجعل المقطع الرقيب الأمني معبراً عن ثورة يوليو الحمراء بثلاثية كلماته. وقد تمسك الشاعر بمقصده النبيل في أشعاره بعيداً عما يزعمه الرقيب الأمني، لأنه كان يعبر بصدق عن إحساسه بعيداً عن أي كسب سياسي. ولعل الرقيب الأمني وقتها كان يحشر أنفه بين دفتي أشعار سعدالدين إبراهيم لأن الأخير كان محسوباً لديهم ضمن منظومة صف اليسار - بحسب كونه كان عضواً سابقاً في الحزب الشيوعي السوداني. وأثبت تلك العضوية في "معجم الشخصيات السودانية المعاصرة " لمحرره الكاتب أحمد محمد شاموق. وهو الشيء الذي دفع الرقيب الأمني – بحسب الشاعر – لأن يروج لشائعة أن رائعته (حروف للعزيزة ) هي كلمات تروج لفكرة الشيوعية. وقد أخرج مقص الرقيب من حيثيات النص مقطع "سلميلنا على خطاكي، عزة العاملة ومشيها" ليدلل بها على مقصده. لكن شاعرها نفى أن تكون "عزة العاملة" حصراً على أدبيات الشيوعيين دون غيرهم. أشعار لحزبيين نفى شاعرنا كونه يكتب أشعاره لحزب معين ودحض فكرة أن أشعاره بها رمزيات لليسار. ولكنه رغم قوله هذا لم ينف كونه كتب عن أشخاص ملتزمين أيدولوجياً ومن بينهم الإعلامي سامي الحاج الذي كانت قد حبسته واشنطن في غوانتنامو بتهمة انتمائه لتنظيم القاعدة- المصنف عند كثير من المراقبين بتشدده الحركي الإسلامي. إذ نظم في قضيته قصيدة جاءت بعنوان "في مجاهل غوانتنامو" وقال إن كتابته عنه جاءت لدواع إنسانية. وهو ذات الشيء الذي دفعه للكتابة عن الدكتورة مريم الصادق المهدي ليكتب فيها نص (صياد اليمامة) وقال إنه تعاطف معها بطريقة إنسانية رغم عدم انتمائه لحزبها. ورغم تعاطف شاعرنا المعلن مع سامي الحاج ود. مريم الصادق إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً أن تؤّول قصيدته "فاطمة يا فاطمة.. فاطمة حبك نما" التي غنتها مجموعة سكة سفر. واتهم فيها بأن فاطمة المقصودة هي فاطمة أحمد إبراهيم وعندها أفحمهم بلهجة ساخرة "إذا فاطمة دي فاطمة أحمد إبراهيم.. الشاطر حسن دا منو؟ الترابي!". فرضيات سياسية وظل الرقيب الأمني يضع فرضياته السياسية في أشعار سعدالدين إبراهيم ويحشر فيها رائحة السياسة ولم تسلم من ذلك حتى قصيدته التي كتبها عن والده "أبوي"." الرقيب الأمني ظل يضع فرضياته السياسية في أشعار سعدالدين إبراهيم ولم تسلم من ذلك حتى قصيدته "أبوي"، إذ اعتبر الرقيب أن الأب المقصود هو الحزب وليس الأب الحقيقي " إذ اعتبر الرقيب الأمني الأب المقصود هو الحزب وليس الأب الحقيقي، فيما اعتبر إبراهيم الأمر خيانة لنصه الذي كتبه في والده وليس في حزب معين أو أي زعيم حزبي. أما لجنة النصوص في المصنفات الأدبية فقد اشترطت أن يغني أغنية "أبوي" مغنية لا مغنّ باعتبار أن الرجل- بحسب رؤيتهم - لا يغني لأبيه. إلا أن الناقد يوسف الموصلي بكى من قرار اللجنة الذي اعتبره مجحفاً في حق الأغنية التي ابتدرت في تاريخ الغناء السوداني التغني للأب. ورغم ما حمله مقص الرقيب وقرون استشعار نقاده الفنيين لمعرفة ما إذا كانت تطل رائحة السياسة من أشعار الراحل المقيم سعدالدين إبراهيم، أم لا؟ تبقى أشعار صاحبنا حية وصادقة، حملت إحساس صاحبها عالياً وطوّفت بالأغنية السودانية إلى فضاء أرحب: مرة غنت عن هوانا فرحت كل الحزانى مرة لاقت في المدينة الحمامات الحزينة قامت أدتا برتكانة ولما طارت في الفضا رددت أنغام رضا