** وبضدِّها تتميَّزُ الأشياءُ... ** ونظلُّ نذكُرُ "عثمان"، كلَّما رأينا، أو سمعنا، عن أقارب بعض المتنفِّذين، الذين تُغريهم تفاهة عقولهم بالإدلالِ بقرابتهم القريبة، و"ظهرهم" القوي، حيثُما طمحوا إلى بعض ما ليس بحقِّهِم.. أو تجاوزوا قانوناً أو معروفاً.. أو احتاجوا إلى إعجاب الناس أو احترامهم!! ** ولكنَّ أخانا هذا، كان من لا يعرفون غير اسمه الرباعي، ربَّما تساءلوا ببعض الدهشة: - الزول ده أخو الرئيس؟؟!! ** وليس مدهشاً، بالطبع، أن يكون امرؤٌ ما، أخا رئيس، ولكن ما يدهشهم عادة، كان هو أن يجدوا الرجل، دائماً، حيث لا يوجدُ -عادة- إخوان الرؤساء، أو حتّى جيرانهم أو معارفهم.. ** أما الذين عرفوا عن الرجُل ما هو أعمق من اسمه الرباعي، فقد كانوا، عِوَضاً عن تعريفه بالإضافة إلى الرئيس، يُعرِّفون الرئيس بالإضافةِ إليه، فيقولون، واثقين: "الزول ده الرئيس أخوهُ"!! ** أمَّا عثمان، فقد كان، أوائل تسعينيات القرن الماضي، موظفاً صغيراً في إحدى الصحف، ومع أنه كان، قبل ذلك بعشر سنين، يحمل "ليسانس اللغة العربيّة، ويكتب الشعر كما الفحول، ويحمل ثقافة ومعرفة نادرتين في أنداده، إلاّ أنّهُ رضي بوظيفة لم يكن أندادهُ أو من هُم في مثل مؤهلاته يرضون بمثلها، (مصحِّح صحافي) وكان معظم المحرِّرين، الذين يقلُّون عنه مؤهلاً وقدرات، يتجاوزونهُ في الدرجة الوظيفيّة.. ** كان يتحاشى أن يكتب اسمهُ كاملاً، أو حتّى ثلاثيّاً، غاية تعريفه بنفسه كان أن يقول "عثمان حسن"، فإن اضطرهُ إلحاح "اللوائح" أحياناً، اكتفى بالقول أو الكتابة "عثمان حسن أحمد"، ولا يزيدها أبداً.. وقد ظلّ أحد زملائه الطيبين يعمل معهُ في تصحيح صحيفة "الإنقاذ الوطني" بضع سنين، دون أن يعرف شيئاً عن قرابته لرئيس الجمهوريّة، حتى ذهب يوماً إلى "المحاسب" ليأخذ راتبهُ، فانتبه -ربّما لأوّل مرّة- إلى اسم زميله الرباعي في كشف الرواتب، إلى جانب اسمه، فعاد مندهشاً -كنت حاضراً- يسأل عثمان: - بالله إنت أخو الرئيس؟؟!! تبسم عثمان وهو يقول له: "المسلم أخو المسلم!!" ** وكان بعض مصادر دهشة زميله، أن عثمان كان قد بات ليلة، قبلها ببضعة أيام، في قسم الشرطة حتى الصباح، إذ كان بالمدينة حظر للتجول، وكعادة الصحف اليومية، كان آخر الخارجين منها، المصحح الذي يراجع آخر "بروفات" الصحيفة قبل أن يحملها سكرتير التحرير إلى المطبعة، وهو أمر عادة ما يتم بعد منتصف الليل.. ولم ينتظر عثمان "عربة الترحيل" التي يحمل سائقها –عادة- إذناً بالتجول لطبيعة عمل الصحيفة، بل فضّل المشي "كدّاري" إلى منزله الذي يبعد بضعة كيلو مترات عن مكاتب الصحيفة، برفقة زميل له، فلقيهُ بعض أفراد الشرطة، واستجوبوهُ، فلم يعرفوا عنه سوى أن اسمهُ "عثمان حسن" وأنهُ يدّعي أنّهُ يعمل في صحيفة، ولكن دون أن يتمكّن من إثبات ذلك ببطاقة (لعلهُ كان قد نسي البطاقة، أو ربّما أنِف أن يعرِف القوم هويته فيتركونهُ، فيكون كالمتوسِّل بقرابته).. المهم هو أنهم أخذوهُ إلى الحجز بمخفر الشرطة، فبات ليلتهُ على الأرض حتّى الصباح.. والقصة حكاها رفيق لهُ من زملائنا، شاركهُ الحبس، وكان غاضباً من عثمان لأنّهُ لم يقل للشرطة: "أنا شقيق رئيس الجمهوريّة"، فكلّفهُ ذلك الصمت ليلة "في التخشيبة" قضاها مع عثمان!! ** أقرب أصدقاء عثمان كانوا هم "المساكين".. أولئك الذين لا يفخر "علية القوم" -عادة- بصداقة أمثالهم، السعاة بالصحيفة، و"الفراشون" و.. عم إبراهيم، الخفير.. وحين أتحدث عن الصداقة هنا فأنا أعني تلك العلاقة المتكافئة، التي لا تشوبها شائبة "تواضع" من طرف، أو "تطلُّع" من طرف آخر أدنى.. ولا أزال -كلما ذكرت أخي الشهيد عثمان حسن- ذكرت معهُ "عم إبراهيم" خفير الدار الوطنية للنشر، ذلك الشيخ الوقور العابد، الذي اختار سهر الحراسة ليلاً، ليجمع إليه قيام الليل وتلاوة الذكر الحكيم.. وحين تُشرق الشمس، فتنتهي نوبة عمله، فإنهُ لم يكن ينام، كما يفعل نظراؤه، عادة، بل كنا نجدهُ في رُكن من أركان الدار ومعهُ مصحفهُ الذي لا يفارقهُ، ينظُر فيه.. أين هو الآن، يا تُرى، عم إبراهيم؟! ** إذا جئت صباح يوم إلى الصحيفة، ولم تجد عثمان، فاعلم أنّهُ سمع نفرة إلى الجهاد، فنفر، فالرجُلُ الشفيف، موطّأ الأكناف، الذي ما سمعت قول الله تعالى (أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين) إلاّ ذكرتُه، كان إذا جد الجد يتحوّلُ رجلاً آخر، فالرجل كان في أبكار كتائب الدفاع الشعبي، وفي أوائل متحركاته، وخاض كثيراً من المواقع، خلّد بعضها شعراً، كقصيدته العصماء التي أنشأها في (جلهاك)، وكانت من عيون الشعر المجاهد أيّامذاك، لولا أنّ عُثمان كان رجلاً حييّاً، يُحبّ أن يفعل أكثر من أن يقول، ويفرُّ فرار الخائف من أن يُشار إليه بالبنان، أو يُثنى عليه بين الناس!! ** آخر عهدي بعثمان، كان قبل استشهاده -منتصف عقد التسعينيات- بحوالي شهر، كان في زيارة لنا بصحيفة "الإنقاذ الوطني"، بعد أن تركها ليعمل في موقع آخر (لعلهُ منسقيّة الدفاع الشعبي) وكان عثمان الذي ألف المشي راجلاً (فشقيق رئيس الجمهوريّة لم يكن يملك سيارة) كان يومها يمتطي درّاجة ناريّة قديمة، يبدو أنهم تكرموا عليه بها في موقعه الجديد، ودّعنا سريعاً ومضى، إلى حيث لم نرهُ بعدها.. ** صموتاً كان عثمان، ما رأيتُهُ -قط- إلاّ ساكتاً، أو قائلاً خيراً، وما شهده أحد قط في نزاع مع أحد على شيء من فتات هذه الدنيا، وما رُؤيَ غاضباً على أحد، أو مغضوباً عليه من أحد، وسبحان الذي يصطفي الشهداء اصطفاءً.. ** لماذا أكتب الآن عن عثمان؟