منعم سليمان ليس لي أدنى تقدير أو احترام لأولئك الذين يُفرطون في الغفلة إلى حدٍّ يثير الرثاء، فيكررون أخطاءهم الكارثية بلا بصيرة ولا ذاكرة، وكأنهم تلاميذ أغبياء لا يستوعبون، وكأن التجربة المريرة السابقة لم تترك في وجدانهم أثراً ولا في عقولهم عبرة. أولئك السُّذَّج المغفَّلون، إن كانوا معك في مركب واحد – وهم في مركبنا لغاية الأسف – يصبحون أخطر من العدو المتربص بك في لجّة البحر، ذاك الذي ينتظرك ليحول بينك وبين شاطئ الأمان. وأقصد هنا بعض المنتسبين إلى القوى المدنية الديمقراطية، الذين انطلقوا بالأمس وهم يصفقون للقرار الذي أصدره قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بل بلغت السذاجة بأحدهم مبلغاً بئيساً، إلى درجة أنه صرّح بأن قرار البرهان إنما يعكس جدّيته في تحقيق السلام! أيُّ خِفّة ودهشة هذه، وأيُّ سذاجة مقيمة بيننا يا الله؟! البرهان والسلام مرة واحدة؟! قل غيرها يا رجل! ومع ذلك، تعالوا نقرأ بصفاء ما جاء في القرار، والذي يحتوي شقين: أولهما إحالة نحو تسعين ضابطاً من رتبة الفريق إلى العميد إلى التقاعد. أمّا ثانيهما – وهو الأخطر – فقد نصّ على إخضاع جميع التشكيلات المسلحة لسلطة الجيش، أي تقنينها لتغدو قوات رسمية ذات شرعية. وإذا علمنا أنّ تلك التشكيلات المسلحة المقصودة في القرار ليست سوى الميليشيات والكتائب المتناسلة من رحم الحركة الإسلامية، مثل: البراء بن مالك، والعمل الخاص، والبنيان المرصوص، والبرق الخاطف، وأسود العرين، وكتائب النخبة وغيرها من الميليشيات الإسلامية، والتي يُقدَّر عددها- في أدنى التقديرات- بخمسة عشر ألف مقاتل، يتبيّن لنا أن البرهان بقراره ذاك قد أخرج (90) ضابطاً إسلامياً من الباب ليُدخل (15) ألفاً دفعة واحدة من الشباك! إن عبد الفتاح البرهان يمثّل أنموذجاً ساطعاً وبشعاً على مدى قدرة الإنسان على نسج الأوهام وإبداع الخداع! أما الذين فرحوا وهلّلوا بدعوى أنّ هؤلاء الضباط المسرّحين إسلاميون، فهؤلاء أكثر سذاجة وبؤساً من سابقيهم. كأنه يوجد غيرهم في قيادة الجيش! وكأن قيادة الجيش لم تكن منذ عقود حكراً عليهم إلا نفر قليل لا يُذكر! وكأن هذا الجيش لم يُصغَ على أعينهم ويُربَّ على مناهجهم! وكأنه جيش السودان لا جيش الإسلاميين!! وأما تسمية قرار البرهان إصلاحاً عسكرياً، فذلك عين الخبل والعَتَه ومستنقع الوهم. إذ الإصلاح العسكري الحق هو ذاك الذي طرحته قوى الثورة وحكومتها المدنية من قبل، فرفضه وانقلب عليها البرهان وأشعل حرباً مدمّرة، ليعيد البلاد إلى أزمنة الهبل والجهاد، وعسكرة الميليشيات، و"مليشة" الجيش، وتحويله إلى ذراع للفاسدين من تجّار الدين! إن من يراهن على البرهان في صناعة السلام وترسيخ الحرية والديمقراطية، كمن يراهن على وضع جاك السفّاح حارساً على باب ملجأ للنساء. وهي مراهنة لن تفضي إلا إلى الحسرة التي ستلتهم أوّل ما تلتهم السُّذَّج والبُلهاء، وليت خطورتها تقف عند حدودهم، ولكنها ستمتد لتسوق الوطن بأسره نحو هاوية مؤكَّدة. إن تكرار التجربة مع رجل كهذا ليس إلا مقامرة بالدم والهوية والمستقبل، مقامرة لن يخرج منها أحد منتصراً، ولن تجلب سوى الخراب. ويا لفرط المفارقة: إننا نعرف الخديعة بأعيننا، ونلمسها بقلوبنا، ثم ما نزال نجد بيننا سُذَّجاً يتلقفونها مبتهجين كأنها بشارة! تلك هي الكارثة الحقيقية التي تفوق قرارات البرهان نفسها فتكاً، لأنها تهيّئ الأرضية لانبعاث الوهم مرّة أخرى .. وتكرار المأساة.