قلق السهر أو سهر القلق داء قديم في أهل الصحافة والإعلام والكتابة والتأليف. وفي إحدى ليالي السهر بمنزلنا العامر بالسودان والذي أصبح الآن قَفْراً خلت منه النهارات الوضيئة والليالي الدافئات تسللت إلى صالون المنزل وتركت الباب مفتوحاً على حديقتنا الصغيرة اليانعة، والتي أصبحت اليوم هشيماً تذروه الرياح. قطعت الليل بمطالعة كتاب في الدين والحياة، ولو أسعفتني الذاكرة فقد كان أنيسي فيه العالم والمفكر والداعية الشيخ محمد الغزالي عليه الرحمة والرضوان. كان المناخ معتدلاً، ونسمات الهزيع الثاني تضرب وجهي في لطف، والنسمات في ليالي السودان لا تماثلها نداوة (الروشة الشامية) عطر الموج على المتوسط وهو يلامس شاطئ الإسكندرية الرحيب. كان الهدوء يلف المكان إلا طقطقات مجهولة تأتي من بعيد، وخفقات للأوراق وحفيف للأشجار. صمتٌ بدده انسراب فأر ضخم من الحديقة، وهو كائن يطلق عليه أهل السودان مسمى (الجُقُر). هالني هذا الفأر بقامته المديدة وسُدَّته الممتلئة والمفتولة، وشجاعته وهو يرفل في الصالون متبختراً غير مبالٍ بصاحب المنزل المذعور. وقد أطل في خاطري حينها ثقافة أهل السودان حول الكلب المهزول والقطة السوداء والفأر الجريء، فقد كانوا يشيعون عنهم بأنهم (شياطين) يتمثلون في هذه الهيئات المألوفة خاصة في ساعات الليل الحالك والعواصف والخلاء. هنا استجمعت جأشي وطاردته حتى دخل الحمام المجاور للصالون. فدخلت عليه وأغلقت الباب من خلفي، ووجدت في ركن من الحمام (النشافة). كنت أمني النفس بأن أصطاده وأريح منه المنزل والحديقة والجيران. صعد إلى قمة سقف الحمام، وقد ظننت وكان ظني ها هنا إثماً حراماً أنني أستطيع اصطياده في يسر ودون عناء. وفجأة توقفت عن أداء هذه (المهمة التاريخية) حين لاحظت أن هذا الحيوان قد تحول فجأة إلى شيء آخر؛ انتفخ حتى أصبح في مقدار قِدْر، وجحظت عيناه وأصبحتا حمراوين كالشرر، وأطلق صوتاً مزمجراً مخيفاً. وانطلق صوب وجهي كالمقذوف، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى أن أنحني حتى كدت أن ألامس الأرض، فاصطدم بكتف الحائط المثبت للباب، وكانت صدمته في صوت القنبلة ذات برق ورعد. أفقت ورفعت رأسي من هول الحادثة، وأصبحت أنظر مستكشفاً للذي جرى، وأحدّق في الحائط محاولاً اكتشاف ماذا حدث لهذا الفأر العجيب. لكنني فوجئت بأنه قد تحول إلى كتلة من (الدم المطلق)، فلم نجد له وسط هذه الكتلة لا ذيلاً ولا رأساً ولا جلداً ولا أرجلاً ولا أسناناً. صليت صلاة شكر لله على السلامة والنجاة، وعدت إلى الحمام بعدها لإزالة آثار (العدوان). حفرت حفرة في الحديقة ودفنت (جثة المرحوم) أو بالأحرى كتلة الدم. ومنذ ذلك اليوم أصبحت أهتم بسيرة الفئران مثلما أهتم بسيرة الساسة والزعماء والهزائم والانكسارات، ووجدت في أمرهم من الغرائب والحكايات والمأثور سفراً يصلح لإصدارات ذات صيت لا تستغني عنها مكتبة ولا يتخطاها قارئ مهتم وحصيف. ولست أدري لِمَ أطلت في خاطري هذه الحادثة الشخصية العابرة الآن، ولكن يبدو أن الأحداث الصغيرة تفجرها وتطلق عقالها الأحداث الكبيرة العصيبة مثل ما يحدث الآن في غزة والضفة والجنوب اللبناني ودمشق وصنعاء وأخيراً دوحة العرب. تلك الكوارث التي أصابت أمتنا العربية والإسلامية إجمالاً تميط اللثام عن تلك البواعث والخواطر والحكايات، ويصبح الخاص في تحالف كيميائي مع العام. تساءلت حينها: هل يا ترى فقدت هذه الأمة الشاهدة حتى شرف الغضبة والمواجهة والمنازلة والحقد النبيل الذي اعتري هذا الفأر المقاتل والانتحاري؟ وهو يدافع عن حياته ووجوده وبقائه وحقه الطبيعي في الحياة. فهل أصبحنا في زمان السقوط إلى القاع لا نجد رغم المحاصرة والإذلال والمسكنة، وقد أحاط بنا العدو من كل جانب لا نجد سبيلاً للخروج والنجاة؟ وقد سُدَّ الطريق علينا، فلا نجد سلاحاً ولا وعياً ندافع بهما عن أمتنا وعقيدتنا وحقنا في الحياة كما فعل (الفأر الشهيد). كنا قديماً نحلم أن تلعب الأمة العربية مباريات التنافس الأممي والحضاري في وزن (الفارس). فتنازلنا وتواضعنا إحباطاً حتى وجدنا أنفسنا نتمنى أن نراها تلعب في وزن (الفأر)، وحتى هذا المقام أصبحنا نشك كثيراً في بلوغه. فهل تجد عزيزي القارئ لي عذراً في هذه المقارنة الجارحة؟ وحتي أزيل عن مشاعركم وطأة المثال ووعثاء المقارنة، فقد وجدت نفسي أهديها وأهديكم لطيفة أمير الشعراء في أدب الأطفال، وهو يرمز لحياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية هروباً من غلظة الواقع وشخوصه من النخب والحكام والسلاطين. فقد روى يوماً في قصيدة رامزة قصة الفأرة والقطة، فقال: سَمِعتُ أَنَّ فَأرَةً أَتاها شَقيقُها يَنعى لَها فَتاها يَصيحُ يا لي مِن نُحوسِ بَختي مَن سَلَّط القِطَّ عَلى اِبنِ أُختي فَوَلوَلَت وَعَضَّتِ التُرابا وَجَمَعَت لِلمَأتَمِ الأَترابا وَقالَتِ اليَومَ اِنقَضَت لَذّاتي لا خَيرَ لي بَعدَكَ في الحَياةِ مَن لي بِهِرٍّ مِثلِ ذاكَ الهِرِّ يُريحُني مِن ذا العَذابِ المُرِّ وَكانَ بِالقُربِ الَّذي تُريدُ يَسمَعُ ما تُبدي وَما تُعيدُ فَجاءَها يَقولُ يا بُشراكِ إِنَّ الَّذي دَعَوتِ قَد لَبّاكِ فَفَزِعَت لَمّا رَأَتهُ الفارَه وَاِعتَصَمَت مِنهُ بِبَيتِ الجارَه وَأَشرَفَت تَقولُ لِلسَفيهِ إِن متُّ بَعدَ اِبني فَمَن يَبكيه ورغم أن الهزائم تُصيب الراهن بالكثير من الشحوب والغباء، إلا أن هنالك بعض الإلتماعات التي تشع فِطنةً في نفوس الصابرين والمبدئيين من أهل الشرف والاستشراف. وفي حكاية الفارس والفأر عِبرة، فإذا أُسقطت على هذا الواقع العربي البائس فإن المعنى يصبح جليّاً وواضحاً.