حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام قاسية في بيت أشباح سيتي بانك .. شهادة بقلم: أبو عبيدة محمد الماحي
نشر في سودانيل يوم 05 - 05 - 2021

كنت قد أخذت كل ما يلزم.. ورق، أقلام، كلمة العدد، موجهات إبراز المين شيت ... الخ، من سكرتارية ج۔د لإصدار عدد جديد لصحيفة الشرارة - الصحيفة الأساسية لسان حال ج۔د بجامعة النيلين۔
وفي نفس اليوم العصر مشيت مع منعم إلى منزلهم الجميل المشجر بالجريف غ، وأخذنا نكتب، ونكتب ونكتب إلى أن انتهينا مع مشارف الصباح۔ أرشفنا العدد۔ بينما طوينا الثلاتة أعداد بفرح جنود أدوا مهامهم مية المية، وتكلناها في أحد زاويا صالونهم الواسع إلى أن يصبح الصبح.
**
في الصباح كنت انتعل حذاءً جديداً، أحد هدايا تيسير التي لا تنتهي، شربنا "شايينا" واستحممنا وأخذنا شراراتنا الثلاثة، بالخط الجميل لمنعم، والذي لا يشبهه إلا خط ود محمود ومدثر وذهبنا إلى الجامعة نبحث عن أتيام تعليقها في المجمعات الثلاث.
*****
في الحوش، أخبرت بأن هناك مخاطبة للتحالف الطلابي منتصف النهار بالجامعة وبعدها سنخرج في مظاهرة وكلفت بتمثيل ج۔د في تلك المخاطبة۔ تكلمنا نحن ممثلي القوى السياسية، وكانت المخاطبة حاشدة وخرجنا صوب السوق العربي من ناحية الإستاد واستمرت المظاهرة لوقت قصير إلى أن نجحت أعداد مهولة من باشبوزق جهاز الأمن المجرم في تشتيتها.
***
تحولت الحشود المتظاهرة إلى مجموعات متفرقة، فقبض علي في شارع قبالة بنك فيصل، وجروني جراً كبهيمة نافقة إلى دار القرآن الكريم فتلو علي آيات من العنف الشارد الهمجي الذي لا يصدق.. وكان قائد الاعتقال "ولد" لطالما استضفته في منزلنا أثناء امتحانات الثانوية، ليتخرج بعدها في أمدرمان الإسلامية وهو الذي لعب دوراً بارزاً كما أتضح لاحقاً في فصلي من كلية آدابها ۔تعمد جري الجر الذي يعني السحل ويشمل عنفه۔ كأنني خصيمه يوم أحد أو اليرموك.
****
في بيت القرآن الكريم "شفت" الدهاقنة الميدانيين للعنف والتخابر وبصوت واحد كأنهم اتفقوا على إصداره حين شاهدوني في قبضتهم:
_الخ۔۔۔ل ده جيبو جوا..
***
"جابوني جوا" على جناح السرعة العجولة، وحالاً صرت كأرنب تجاسرت عليه كلاب الخلاء، وفهمت حالاً أن التحقيق معي قد بدأ قبل أن يوجه إلي سؤالاً واحداً.
دق بكل شيء يمكن تخيله سيور المكنات، خراطيش الموية، سيطان العنج، أبوات العساكر، الأيدي الخشنة من آثر عمل جهاز الدولة غير المنتج، وحتى الصاجات الخارجية لعجلات عربية متكولة في الحوش۔!
ضرب في اية موقع، الوجه، الأكتاف الضهر، ما بين الفخذين، الإليتين، السيقان، الرأس والأضنين وهذا التعذيب في "حفلة الاستقبال" الأولى هو الذي أورثني ألماً مضنياً في أذني الشمال، ما زلت أعاني منه حتى لحظة كتابة هذي السطور خاصة في أيام البرد..
(2)
بينما نحن رقود بأمر الأفراد والضباط، إذا بالسيد الدكتور نافع يدخل منتعلاً الجزمة السوداء أم قدوم، وهو يشلت فينا يميناً وشمالاً ويصرخ بعلو الصوت لدرجة الابحاح:
_دي حكومة نحنا شغالين ليها من سنة 53 تجو دايرين تنطو تقلبوها بالمظاهرات يا لو۔۔۔۔طة؟!
*****
في هذا الوقت، ولاحقاً أثناء حفلات التعذيب، نما عندي الميل لاستخدام العنف الواقي۔ العنف الضروري۔ العنف ضدهم حينما يصير واجباً عاجلاً لشل الأيادي المعتدية المجرمة۔!!
وفجاءة الآن، تذكرت اقتراحي لمكتب الطلاب لاحقاً، بأن يعطونا إذنا لتأديب أحد القتلة وكنت قد اقترحت خطفه وتقييده لأحد الأعمدة بالسلوك وحرقه حتى يكف أذى إخوانه عن أجسادنا.
لكنهم رفضوا.
****^
في مكتب الأمن سألوني بتسجر؟
قلت: لا
۔بتسف؟
قلت؛ لا.
نط واحد قاليهم:
_ده بتاع عرقي الخول ده.
قلت له:
_ أنا لا اسكر۔
وفي الحقيقة كنت اسف وأسجر قليلاً۔
في تلك اللحظة، تمنيت سفة۔ نفس سيجارة طاير، أن أكون طليقاً أحفر وأوسع أحواض شجرات ليموناتنا الثلاث، أن أتمشى في "الشارعين"، أن اسلم على كل من يقابلني، أزور كبارنا واستمتع بمشاهدة الفضاء البلانهاية ل "الشاوراب "ولكن!
****
الإحساس بالضيم ووقع الإهانة مرير كطعم القطران..
لفترة طويلة بعد خروجي كنت أبكي بلا سبب وجيه..
استيقظ من النوم وأبكي لفترات طويلة.. واشعر الأن بالألم الذي صدرته لتعذيب والداي بدون أن أقصد ذلك.
كنت اتجول في حوشنا طوال الليل وهجرت النوم لأتفادى الكوابيس المزعجة.
كل شيء كان غريباً. المخدة، الملاية النضيفة، اللحاف القطني، الأكل المنتظم، شراب الموية وسلام الناس عليك! وفكرت:
_ لن يغسل روحي سوى ازهاق أرواحهم..
بعد فترة طويلة زارني لينين الطيب وأستاذ برعي في بيتنا.. غلبني أن أقول لهم أنني أرتب لحمل السلاح، غلبني أن أقول سأفارقكم يا رفاق.
*****
تحدثت مع والدي الشيوعي۔ ناقشني سياسياً وفي النهاية، أمام اصراري قبل خياري بكثير من الحزن في عينيه۔ ببنما اكتفت والدتي بالرضا الساكت وماتت في يقظتها المستمرة بالبكاء.
تهديدات عبد الغفار لهما بتصفيتي كانت حاضرة في ذهنهما كأم وكأب.
في اليوم الأخير لإطلاق سراحي كان عبد الغفار يسخر من زيادة وزني:
_ بقت ليك ج۔۔۔ات يا لو۔۔۔ي۔ اسع تطلع تتمنتش عذبوني ونا۔۔وني
****
في مكتب الأمن ستحاصر بكثير من الأسئلة، ثلاثة أسئلة في أقل من 10 ثواني، فعرفت أنهم يهدفون لتشويشي وتشتيتي حتى أقع في الشباك، فكنت لا أجيب إلا على سؤال واحد ولا اهتم كثيرا ببقية الأسئلة من باقي الضباط۔
(3)
استنجد المعتقلين بالحراس۔ دقو الباب وصاحو، كنت أشعر بألم مضنٍ في مثانتي من أثر الركل الشديد بأبوات الجيش القاسية، شعرت بأني لا استطيع التحكم في بولي وحين تحسست بنطلوني كان هناك دم كثير وكنت أحس كان هناك "قزاز" مجرح في قضيبي۔ وكنت في حالة أقرب إلى الإغماء والذهول وكان هناك طنيناً لا يحتمل في أذني۔
حملني الحراس جذعى إلى شفخانة الأمل قبل أن يتطور ويصبح مستشفى للجهاز۔ وحين "شافوا" الدماء أشار الطبيب إلى ضرورة نقلي إلى السلاح الطبي.
****
قبل أن اخوض عن وجودي هناك بمعية حراس الأمن، أود أن أتوجه بالشكر للطبيبتين الباسلتين في إحدى مساءات فبراير من عام 1992 واللائي أشرفن على تطبيبي۔
كنت لا استطيع الاستلقاء على ظهري ولا بطني فالجروح الغائرة تملأ جسدي وتلتصق الدماء بالقميص الأبيض الذي ارتديه ويكون نزعها أمراً في غاية الصعوبة ومؤلما۔ حكيت للطبيبتين ما حصل وسط ذهول فردي الحراسة قالن:
_ما بنعالجو ما بنعالجو إلا إذا جاب لينا أورنيك..
وأضافت أحداهن:
_ دي جريمة والولد حيموت..
ونفضت يدينها وتبعتها الأخرى۔ توالت الاتصالات بين الحراس وقياداتهم۔ مرت بجانبي أحداهن قلت لها أنا تعبان أكثر من المثانة تجاوزي مطلوباتك وعالجيني۔ قالت لي:
_أنا عارفة لكن ياخي ديل عذبونا عديل..
وأثناء تطبيبها لي ظهر الجميعابي في واحدة من زياراته الشتراء الخاطفة وقال لهم:
_ده ماااالو؟
لم تجبه الدكتورتين وإنما أجابه فرد الأمن الذي يدعي طوكر:
_ طالب شويعي عامل قلاقل۔
أجابهم الجميعابي بغضب رهيب:
_ ولو شيوعي جايبنو هنا ليه ما كنتو تكتلو!
وانهال علي بالضرب المبرح بالكفوف الشاملة والتي تغطي الوجه كله الخدين والأذنين والفم والعينين.. كان معتمداً لأمدرمان..
في تلك اللحظة أيقنت أنني لن أسمع بعدها، وبالجد.. هالني كيف لذلك أن يحدث؟
ألا أسمع؟
أنا أحب سماع القرآن وأولاد حاج الماحي، وأبو داؤود، وسيدة الغناء فيروز، ونجاة... الخ.
وحين واجهته في العام 2005 بأحد اركان الحركة الإسلامية بتلك الواقعة أنكر ذلك وانزوى بالمهاترات وتفرس في جيداً فحسبت أنه تذكر ما حدث فخجل وتحاشي النظر إلي بعدها بل صرف عني مجموعة كانت قد أحاطت بي لاعتقالي من داخل الحرم الجامعي بعد انتهاء ندوته..
(4)
دينق طبنج دينق
في ثقافة القوميون العرب هناك ما يسمى بالبوابة الشرقية!
في ثقافتي أنا كشيوعي بسيط لو قدر لي أن اسمي دينق فهو بوابة السودان الجنوبية!!
ااااي نعم!
دينق طبنج دينق
دينق أنا "بنجوس" يا حبيبنا۔
بنجوس بنجوس يا دينق۔
لروحه المهذارة اللطيفة السلامية ألف سلام.. لعمران الدولة الوطنية الديمقراطية تحيات، وتحيات لفوزي أمين وزير ماليتنا العادل التفتيحة، شعب البيت أولا وبعدها تهون۔! ولأنور ود الحوش الكبير الاسمو السودان بمليون ميل مربع بلا نقصان ولا زيادة الشاب اللطيف الضحاك الطيب الوجودو نفسو داعياً لك للصمود.. لحبيبنا صلاح العالم المعلم الكبير.. وإلى خالد عبد العاطي هذا ولد يساوي وزنه ذهباً فاكتنزوه، لأن درب الثورة ما زال طويلا..
ولصديقي أحمد المجذوب۔ يا أحمد انعل ابو العربات..
سيرحمك الله يا حبيب، كنت دائماً تسألني آها العرس متين؟
في الدكان ومكتبنا في بحري وفي السوق ۔ آها يا أبو حميد..
تزوجت يا حبيبنا وانجبت ثلاث من الأبناء۔
أحدهم الأصغر سميته عليك، وعلى الرسول وعلى عمي أحمد شيخ العبيدية وعلى اسم لطالما تمنيت في أحلامي الخاصة أن اسمي به.
موتك قتلني يا أحمد ولكنا نعيش..
وللذي بذل كل مافي وسعه من اجل الكشف عن الجرائم د. محمد القاضي، فقد كان تعذيبه رهيباً لا يقاس أبداً بما شملنا.. إلى كوبا وطارق وفي شخوصهم شعب الكلاكلة العظيم.. ولسواق الشاحنة الذي واظب على التواصل بعد خروجه من المعتقل۔ وإلى سواق اللوري من المناصير والذي اعجب بجسارة المعتقلين، ولهم كلهم حين ضحكنا في هجيج الأحزان من نكته صلاح العالم في طابور السخف وكان عمنا علي الماحي حاضراً ما يزال..
نادوه بإذلال فأذلهم:
_ أحكي نكته..
فحكى صلاح:
_جدادة جات تقطع الظلط دهسها لوري قامت اتنفضت وقالت ليهم:
_الديكة كده ولا بلاش!
فضحك حراسنا المسلمون لي سنهم السابعة وسرعان ما اكتشفوا "جرمهم" فتابوا وعادوا للعبوس!
*****
قال لي الفلسطيني نزيل الزنزانة سبعتاشر:
_لا يمكن أن يكون هؤلاء سودانيين!
وكان يبكي بحرقة۔
وهو مالك شركة "دهلة لمنتجات البحار"
فلسطيني.. وأحد كوادر "حركة الجهاد الإسلامي"۔
حين لاحظ الكيزان أرباحه العالية وسوقو الماشي، طالبوه بأن يشركهم في شركته.. رفض فطالبوه بسحب سفنه فسحبها إلى مياه مصر الإقليمية، فسجنوه وعذبوه واكتشف زيف الأخاء الإسلامي في أرض الإسلام تحت حكم إخوانه المسلمين۔
****
كان الرجل لطيفاً، أثناء تواجده معنا وزع علينا آلاف الجنيهات.. ودخل في إضراب عن الطعام وكانت الدنيا رمضان اعطيناه حلو مر وبطنو فاضية فعذبه عذاب السنين وشعرت بحزن حقيقي في عدم الانتباه لذلك بينما ظل سواق التهريب المناصيري والذي قبض عليه في صحراء بيوضة..
يسألني:
_شويعي عدييييبيل؟
فأقول:
_ أيوة عديييييل..
يسأل:
_بتعرق ناس عطبرة؟
أقول:
_ نعم ، بعرف ناس شنكل وخالد وأولاد جبريل وناس القطي..
فيقول:
_ أنا ذاااتي بعرف ناس القطي۔
غلبه البول في الجردل بينما يجاور الآخر المخصص لموية الشراب.. قلت له؛
_عادي يا عم عبدالله۔
كان وجهه حزيناً واكتشف للمرة الأولى في حياته حقائق مجلجلة فبكي وهو يودعنا وحين خرج ورجع إلى مهنته كسائق توقف عند قريتي بشارع الخرطوم - مدني وطمأن أهلي علي عندما علم أنني ما ازال معتقلا.. وحين خرجت زارني مرة فكنت سعيداً أضحك بينما كان يبكي شوقاً إلي.
(5)
ذات نهار غايظ من نهارات الصيف استدعيت للتحقيق في المكتب الخارجي الأبيض أمام بوابة بيت سيتي بانك.
عبدالغفار وعاصم وآخر لم اتعرف عليه وقتها لكن لاحقاً، وبالصدفة عرفت أنه من نفس حلة ناس لينين الطيب..
كانوا جلوساً..
قدمني "أبوزيد" إلى باب المكتب ووقف متفرجاً،
لم يعذبني "أبو زيد" في ذلك اليوم وشعرت بغضبه من وقاحة عاصم الذي نهض ما أن دخلت ليوجه إلي لكمات سريعة متتابعة على طريقة كلاي.. سقطت على الأرض، وفكرت في حظي العاثر الذي جعل لكمات عاصم الكباشي تقع في نفس موضع ألم أذني الشمال!! بينما ظل عبد الغفار الذي تعب من لكمي وصفعي ناظراً إلي بغضب، تلك النظرة التي لا يرمش صاحبها.
وتولى عاصم والقادم الذي لا أعرفه حينها ضربي ولوي يدي حتى وهنت كوعاي، وما زالت آلامها تتاورني في الأيام الباردة.
******
سألوا عن كل شيء يمكن أن تتخيلوه ۔سكرتارية ج۔د سألو عنها وسألوا عن "جناحها العسكري"!! فهذي نقيصتهم منذ انهزامهم في معركة العنف الشهيرة سنة 1988 بتاعت ناس الأقرع. وسألو عن علاقتي باسم طالب لا أعرفه وسألو عن عوض هارون الذي كان معتقلاً حينها وعن الشرارة ۔وعن كتبتها۔ وماذا أقصد بأمدرمان في مشروع "القصيدة المحاكمة منذ فجر التاريخ"... الخ.
_الليلة بقتلك هنا في نفس المحل القتلنا فيهو علي فضل۔
هذا ما قاله "عبدالغفار الشريف" ونادى على "أبو زيد" بأن "يفسحني"..
ساقني ابوزيد إلى كورنة المبنى بحيث يكون مراقباً لباب المكتب وقال لي:
_ شوف يا ملكي يا كهنة أنا حادق الحيطة دي، لو الخولات ديل جو طالعين بقول ليك عشان تتحك كأني كنت بضرب فيك۔
قلت له بغير اندهاش:
_ تمام التمام..
في فسحة ما من أرض ضلال الإنسان يكون قلبه صاحياً موجوداً ونابها!
*****
لم أرى عاصم بعدها أبداً..
هذا الرجل كان أخطر من عضوية الجهاز الم5دلجة..
كان مجرماً احترافياً خطيرا..
حين يتخلى الإنسان عن كل قانون يصير وحشاً كاسرا..
وعاصم تخلى عن كل ما يمكن أن يكتب تحت "إنسان" في محاولة للتعريف به!
لقد أتوا بقلب جهاز أمن نميري المأجور يستأسدون به علي المعتقلين وعلى القيادات "المشبوهة" بالجيش!..
كان عاصم مجرد صعلوق وخائن بلا ضمير وحين سمعت لاحقاً بخبر وفاته لم أعره اهتماماً يذكر.
لكن لم تغب عني صورته أبداً.. كنت اشوفو بنفس الشكل الذي بدى به في "المكتب الأبيض" وهو يحاول أن يرضي بتعذيبي سادته الإسلاميين الكذبة، وهو يتلذذ بلوي يدي إلى أن صار ظهرها بطناً وبطنها ظهرا!!!
******
كلما اتذكر ودالتاي، ومحمد القاضي، وعمنا علي ود. كامل حسن الذي أجلسوه ليعلمه "طوكر" ألف باء تاء ثاء ويقول له مقاطعاً أثناء حصته:
_عامل شنبك زي النمر كده.
وعلي العمدة وعصام ود حزب الأمة
يسيطر علي الغضب العارم۔ لقد عذبوهم حتى لم يبقى من العذاب شيء.
******
ظلت ضحكة وقرقريب أنور كما هي ۔صلاح العالم لا يتعب من حكيه وونسته۔ كامل في كامل قفشاته، وعمنا علي بهدوء الكبار يحلل ويهدئ.. ۔وعمران يتفقد شعبه، وطبنج يحوم بين مجموعات الأكل ليزيد الملاح ويمد مزيداً من العيش.. وفوزي يعلن عن مهارات طبخ لا تضاهى.. أما ودالحوش فكان الأخير مع فوزي، وطبنح، وعمران من يتناولون وجبتهم.. بعد أن يأكل المناضلين والمهربين وتجار العملة والحراس... الخ.
****
تأملني عم علي الماحي السخي:
_قميصك ده وسخان ومليان بقع في قميص هنا حق محمد بابكر خلاهو لينا ألبسو..
ولبسته، كان قميصاً محترماً ذو مزاج نقابي خمسيني لا ينقصه إلا قلم البيك الظهري واحتفظت بهذا القميص لزمن طويل حتي أهديته في واحدة من سفرياتي للبلد إلى رجلاً شاهدته عارياً بمسجد الحلة.
*****
كويس شفناك طيب.. أنا طيب
قلت له: وأنت كيف؟..
قال لي أنا طيب. لكن كان شاحب الوجه.. عيونه تعبة جداً وساهرة.. نفسو قائم ومهدود الحيل. خجلت أن أبكي "قدام" انتصار زميلتي في المكتب۔ نزلت بجوار دكان ناس أحمد المجذوب وبكيت بقدرتي كلها۔ فصحي "الجنرال" النائم داخلي.
وفي لحظة واحدة أدركت ضعف وعدم فاعلية النضال الجماهيري السلمي في مواجهة النظام الباطش!!!
_كيف ياخينا؟
أهلك كيفم؟ قلت له تمام التمام يا عم علي.. ودخل بعدها مع مدير مكتبنا صلاح سيد أحمد، أخو طه في مكتب ذاخر وشركاؤه للمراجعة في سوق خضار بحري۔
بعد كل عودة من التحقيقات إياها يسألني عم علي ويحفزني ألا أنسى أدق التفاصيل فأقول ما حدث بالضبانة، يحلل ما تقول بخبرة ويرمي إليك بنصائح ثمينة كجواهر.
أنت ليس وحدك، أنت تقاتل وخلفك جيش من الأسرى ۔خلفك شعبك۔ كل الأوجه الخائفة، والأوجه المطمئنة، تاريخ من الصمود وعذابات كثيرة حفظت هذا الدرب.
وأين سيخفوا زهرة الليمون والعطر حدائق؟
(6)
الحساسية ضد المناطق المقفولة هي أول ما أصابتني بعد الخروج، حتى لو كان هذا المكان هو الحمام!
البحث عن مخرج من المكان الذي أدخله، كان مربكاً ومحرجاً فهو يبدأ مع مد اليد للسلام!
تفادي قيلولة النهار لتفادي الكوابيس بالنوم العميق ليلاً صارت عادة!
كوابيس اليقظة ظلت تطاردني ففي كثير من الأحيان كنت ارجع عايداً من مشوار كنت في دربي إليه!
تفادي المعارف الجدد فعلاً سخيفاً يشيء للطرف الآخر بغرور غير موجود أصلاً!
استنهاض أقل مسلب تأميني قديم وقرايتو بمنهج آخر معنف ومدمي صار عادة يومية غير عادلة!
الميل للعنف حتى في شكلة عادية مع كمساري شليق صار مسلكاً يوميا.
نفاد قدرة غض النظر عن الأخطاء الصغيرة والغفران... الخ.
(7)
أما ليلة القبض على البعثيين فكان أمراً جللا۔
عاد فريق الاعتقال الذي اغتال ضابطهم "طلال" أثناء مداهمة منزل عتيق عن طريق الخطأ۔
"شفقة بت مسيمس"
عاد هذا الفريق المجرم ليخرج البعثيين ويعذبهم عذاباً لم أشهد مثله في حياتي۔
استمرت "الحفلة" من حوالي الواحدة صباحاً وحتى السادسة ونصف۔ درديق في الطين وضرب غير معقول بالعصي والسياط وألفاظ نابية لم يدخروا لفظاً إلا ورموه على مسامعنا۔ ولا زلت أذكر غضب فوزي، وحزن علي، وعمران الذي طبطب على كتفي حين شاهد دموع غضبي.
وقبل أن يغادر المجرمين لم ينسوا أن يذكروا الشيوعيين بأن الدور جاييهم الليلة دي!
_الليلة دي يا ل....ة..
مثلما كان يردد "طوكر"..
الغريبة أن "طلالا" كان قبل أقل من أسبوع بالبيت بيستعرض في عضلاتو وبقل في أدبو خاصة مع أحد طلاب الثانوية بتاعين بيت المال اعتقل لأنه كان يتظاهر وحيداً ممسكاً بلافتة قصاد المدرسة الأهلية.
شارك في ليلة التعذيب كل القيادات الميدانية للجهاز، وشاهدت بأم عيني عبدالله الشاويش وهو يحمل خرطوش المياه الأسود وهو يتصبب عرقا.
******
كان عنفهم رهيباً ضد عصام، أحد أبناء النيل الأبيض وحزب الأمة وطالب كلية العلوم بجامعة الخرطوم.
سألت عنه بعد خروجي وعرفت أنه سافر إلى روسيا.
كان عنفاً وحشياً، وكاسر.. شهدت فصول منه عيان بيان وقد صمد عصام صموداً أسطوريا، وترك التعذيب داخل روحه الغضة الطيبة آثاراً لا اعتقد أنها ستزول بسهولة.
في معظم الأحيان كان عصام شارد الذهن، وساهياً بشكل مقلق، وكان يميل للانزواء بنفسه وليس له ثقة في أحد، وكأنه أحد أبطال مسرحية قتل مجنون بالبنادق.
لم يستطع أن يستوعب ما يجري من جريمة إلا حين صار في داخل كواليسها، من قوى يمكن تصنيفها بأنها من نفس نادي الإسلام السياسي الذي ينتمي إليه۔
كان يعود من تحقيقاته وهو لا يقوى على الكلام يهمس بتعب حقيقي، فلا تكاد تسمعه وآثار العنف في كل جزء من ملابسه.
أكثر ما عذبني منظره لأنه يعيدني إلى مشهد استشهاد ناس كرري بعد كمال إدراكهم "انو مافي نصرة"
كنت أقول له:
_والله "النصرة في"..
فيبتسم وهو لا يقوى على الابتسام.
(8)
في الجهة الشرقية للبيت، ولصقاً لحمام "مجلس الوزراء"، هناك حمام خارجي مهجور يستخدمه الحراس كمستودع لأدوات عملهم الإرهابي.
هو المخرن الذي استخدمت مخزوناته ضد كل ضحايا حفلات التعذيب المشهودة خاصة في حفلة تعذيب أولاد الثانوي والذين أخذوا إلى جهة غير معلومة بعدها.
حائط من طوبة هو حائط البرندة الذي كان يفصلنا من أجسادهم الدقيقة تحت لهب سياط الكيزان..
لم نتعرف عليهم بسبب الظلام لكن كان من بينهم ابن ابوزيد محمد صالح وزير الخدمة المدنية في حكومة الوحدة الوطنية، فقد اخذ النصيب الأكبر شتماً وضرباً تعداه ليشمل والده طيب الله ثراه.
***
متروس الحمام بملابس الجيش۔ متروس۔ الملابس المهملة المغبرة كان البلاد سلام، كان البلاد بلا حرب ودماء وقتلى.
اخرجناها كلها أنا وزميلي (أ)،
في مساء بارد، البرودة التي لا تقوى فيها على لمس المياه، كان مساءً هادئ في نوم عصافير شجر لجنة الاختيار جارتنا من الجهة الشرقية، أوقفنا الحارس وأيادينا علي الحيطة كنا نرجف من البرد، الرجفي الذي لا يمكن بعدها السيطرة عليه، غاب وجاب في يديه طشتين حديديين وصابون كثير وجلس على مقربة منا الحارس "مقبول" الحاقد الذي تخصص في دفعنا للإسراع بإكمال "الواجب"، وينادي على جنده ليشهدهم على "كسلنا"!!
- يا ملكية نحنا لمن دخلنا الجيش بنغسل العدة دي كلللللللها في ربع ساعة! انتو غايتو يا أولاد الخرتوووم!!!!!
كانت الملابس لا تقل عن 15 دستة، من يونيفورم الجيش، غسلنا حتى أنني فقدت الإحساس بيدي بسبب برودة المياه.
كاد (أ) أن يموت غضباً، وفي لحظة قرر أن يخطف سلاح الحارس همس في اذني ألا أجيء إلى جهة وقوفه بعد أن يخطف الكلاش لأن الحارس سيحتمي بخطفي ولن يستطيع اطلاق النار حينها!
ورفضت طبعاً... كنت أقف ما بينه وبين السلاح ففعله مهما بلغ من الجسارة، لن يكون سوى تهوراً دامياً كلفته غالية.
تعبت جداً في زمن حصار، وأنا أحاول التسريع من تفريغ شحنة حنقه وغيظه العالية الواط.
ذكرته بالرجال كبار السن، المجموعة الجديدة للمعتقلين، أبرياء سيدفعون ثمناً غالياً بدماء لطالما سعى سجاننا إلى سفكها.
كانت عيناه تلمعان كبليتين جداد، ولم أره في حياتي بالجدية التي أعلن عنها حينها.
أنا أغسل فأجدع له ما أغسله وهو "يمصمص" فنجبر على إعادة الغسيل مرة ومرتين مع خمستاشر دستة ويزيد من الملابس التي لا تلوى بسهولة لتعلق وتنشف.
طال ليلنا وبدأ كانه درب إلى منتصف قبة السماء لن ينتهي أبداً!!
في الصباح اكتشفت أن معظم أصابعي بها أثر نزيف ناشف۔ وصار واجباً ألا تلمس الطعام المالح لأني سأدخل في برنامج عذاب آخر.
****
كان سلاحه مرمياً أمامه، مهملاً، وكان يغني أغنية من أغنيات هشك بشك لا أتذكرها الآن،
وكان يتوقف ليكيل بعض السباب وينادينا بالملكية الكهن صعاليق الخرتوم ويرجع ليردد أغنيته الماجنة.
- وانتو بتصلو؟
قلت له:
- نعم واسع دايرين نصلي..
فقال بضحكة ضاحكة وبجدية مردداً لصوتي بشكل أنثوي معاهو فزرة:
- واسع دايرين نصلي..
وأضاف وهو يلكزني بفوهة كلاشنكوفه:
- الصلعة المقابلة خط الاستواء، الصلعة المقابلة فتحة الفرن داير تصلي لي منو؟ لي الله؟
قلت:
- نعم..
وأضاف بوثوق كاذب:
_الله هنا زاااتو مافي...
*****
"حتى الأحمق ذو العينين الساذجتين يستطيع أحيانا أن يضع اصبعه على مركز الأشياء".
_هنري ميشو _
"بربري من آسيا"
******
في الفترة التي قضيتها هناك حقق معي أربعة مرات، ثلاثة بمكاتب الجهاز، والرابع في مكتب استقبال بيت سيتي بانك، وهو التحقيق الوحيد الذي كنت ارتدي فيه خرقتي، كان عبدالغفار يحرص على تقليعي وكنت أرمى بكف الإهانة هذا بعيداً لأني عارف مراميه وأهدافه، ففي محاولة تخويفهم لك وكسرهم لإرادتك، أحلام زلوط المتأسلم، تخويفهم للشعب وكسر يد مقاومته ونضاله.
******
في واحدة من تحقيقات العري هذي احضروا أحد طلبة رابطة الاتحاديين بالجامعة كنت أعرفه ويعرفني وبيننا سلامات وونسات صغيرة وكان في مرة رفقة أحد المفاوضين الاتحاديين في واحدة من اجتماعات اللجنة السياسية للتجمع.
وبعد حفلة من جلد سياط العنج والبساطين والخراطيش السود أوقفونا وجها لوجه وقال لي عبدالغفار:
- اكفتو..
رفضت، وحين جاء دوره خفت في داخلي، وفكرت لو فعل سيهزمني الهزيمة التي لم تستطعها السيطان والعصي والنبذ، ما رجوت شيء في حياتي كما رجوت الله في تلك اللحظات ألا يفعل...
ولم يفعل.. ابن بداية حي الرياض الفارع الممتلئ ذو العيون الواسعة، ويؤسفني ان انسي اسماً صامداً مثلك.. لك مني تحيات أينما كنت.
****
لم أراه بعدها۔ لا في مكاتب الجهاز ولا الجامعة ولا في الخرتوم، لم يكفتني فزرقني بماء سنام كفت لرحلة درب أربعيني شاقة.
(9)
تمكنت مني فيروز و"رحابينها" الأفذاذ بروحها/ بروحهم وبعطر أغانيها/ وأغانيهم العذبة وأحاطتني بقبل لا تنتهي وبسلوي في وحدتي الخاصة المخصوصة۔
****
كنت أعلق في اشعار درويش فيحيلني لا إلى جمال العربية كلغة وحسب، بل إلى واقع مر وتاريخ وأساطير ودموع وحيل وتشرد وخيام مكتظة ب "شعب سعيد كشعب اليمن"!
وفي ذهني كانت قعدة وردي وهو يردد:
"مهذب أمامك يطيب الجلوس"...
وبعانخي البعيييد البعيد البعيد الذي خاض حرباً ضد معذبي الحصين فكيف كان سيخوض حربه ضد معذبي الإنسان أجود خلق الله وأكرمهم؟!!!
جنازته ربما الأولى التي شيعت في تاريخ البلد بالأغاني والموسيقي والأهازيج.
سألني مرة محمد الحسن سالم انتو هنا عندكم حلاليف؟
قلت له:
- كانن في لكن الصينيين عدمونا نفاخ النار،
فضحك حتى استلقي رأسه للخلف.
****
وأسمع الست ودرويش ونجم وإمام فأحس كأنني أحوم ما بين السيدة وجدران القاهرة القديمة لا محبوساً في بيت أشباح!.
ويطيب لي الطيران في بيتنا وتذكرت لحافي البارد في نيران ليالي مايو فتتمنى هواء يهبهب ملايتك ويحيل الماء في جك الألمونيوم لماء بارد وعذب.
ولأني أحب الشجر كانت الشجرة المهملة في البيت تذكرني بشجرنا فأحس بجريمة ألا يسقي ويهذب. الشجر طفل يحتاج دائماً لمساعدتنا. قلت في سري:
- التعذيب ليس هو الجريمة الوحيدة للأوغاد ابانحلاقيم الحاكمين.
****
أعتاد عم علي أن يسأل ويتبعها بي تمام ياخينا؟ قال له دينق في واحدة من الزهجات:
- تمام ده في الجيش يا عم علي، أنا ما تمام خالص.
****
وفي ذهني جيلي عبدالرحمن، وفي ذهني محي الدين فارس، أتى به حسين خوجلي ليدين اليسار فقال له:
- أنا ابن اليسار السوداني يا ابني..
(10)
شاءت الصدف أن أكون مستدعى إلى مكاتب الأمن في نفس يوم "دقة كندا
"النور" الذي ضداً لاسمه، و"مقبول" رجعا من نص طريق عودتهم للبيت بعد أن أوصلاني لمكاتب الجهاز ليهجما علي بلا سبب (معقول) بينما كنت في استقباله انتظر دوري في التحقيق، وجراني مقبول جراً للحديقة كخروف بينما كان النور ينهال على ساقي بخرطوش المياه الأسود بضرب مبرح لا يحتمل.
*****
كلاهما كان يناهد، كأنهما يصارعان ثوراً هايجاً..
كنت احتمي من (بزاغ) مقبول بيد عارية أمام سيطانه ولكمه وحين صار وحيداً سألته:
- ليه بتضربني كدة؟
فأجاب مع سيل كفوف:
- هو مش كويس أنا ما قتلتك يا خول.
*****
ما أن سمعت الخبر في نشرة العاشرة أو التاسعة، لا أتذكر الآن، من تلفزيون استقبال الجهاز، عرفت أنني سأتعرض لتعذيب إضافي وقد كان في وقت وجيز للغاية فبعد إذاعة الخبر تحولت مكاتبهم إلى مرجل يغلي استدعيت إلى الداخل ضربت بالسياط لمدة نصف ساعة وارجعت إلى الحديقة ليكون "النور" والأهبل "عبد الرضي" والآخر ود الكلاكلة القلعة في انتظاري بالدفر المتتالي للأخر واللكم بطريقة عندك غبينة مع الزول وارجعت منهكاً لا أقوى على حمل جسدي إلى بيت سيتي بانك.
****
ومن لمعالجة هذا الوضع سوى علي، وفوزي، وأنور!
ياتوك بسفة صاعوط..
وبوجبة غبت عنها طويلا.. ويحيطونك بعيون متضامنة في عذابات يعرفونها بأكثر من ما حصل لي وبرغبات ثورية وأمال عراض في أن اتجاوز المطب۔ وبحاجتي أنا لأكون مثلهم.
بلادي ستحتفي بالبطولة..
لا تكفي سطور دفترها لإضافة مشروع خائن جديد.
******
انهمرت دموعي، بكيت من الغيظ ومن عدم قدرتي على رد العنف حتى لو أدى ذلك لحتفي، نوع الغيظ ده مؤلم، أنا متأكد أنه أودى بأرواح وثابة وشجاعة وصامدة إلى أرخبيل الموت كما سيؤدي فلتان المجرمين من العقاب لموت كثير من الضحايا وستعاد التجربة لاحقاً فالكوز قليل أدب متي ما أمن العقاب.
قبول ما هو صحيح في موجهات التأمين، وتكتيكات مواجهة التعذيب والاعتقال، والتحقيق قاسي ويحتاج لصبر أيوبي وجلد وإلا تحولت من مناضل إلى اخر يمارس السياسة بالقتل خارج دائرة القضاء.
وفكرت:
سالت دماء غالية جداً، لم يخوفوني بمصير عليا، كنت استمد من صموده إلى حد الاستشهاد صمودي، "شفت" دموع غضب لرجال في مقامات الأب والعم والخال، حاول القتلة إهانة وإذلال أجمل أرواح البلاد ليهزموهم ويعمموا الهزيمة حتي يبقوا هم الحكام الفجرة قليلي الحياء الحرامية القتلة السفهاء إلى أن يسلموها لعيسى- زي ما قال نافع۔
قاومت الانقلاب بعد انتهاء بيانه لأول مع الأمير وهاشم ووليد وعاطف، كتبنا الشعارات المناهضة له وعلقناها على أعمدة النور وفي أبواب الدكاكين، ولم تكن قد مضت ساعة واحدة على إذاعة بيانهم الكاذب، وأحسب أن ذلك هو أول فعل مقاومة ضد القتلة الذين أداروا حفلات القتل لثلاثين سنة لاحقة من تاريخ البلاد!
*****
لن ادعي طهراً تمنيت معه سلامة الترابي، تمنيت له الموت، وماذا كان في وسعي ليقودني إلى غير ذلك؟
وصحي (الجنرال) داخلي،
الجنرال الذي كرهني اسمه لاحقاً، "شواوييش" الحروب المدفوعة وكسبتها باسم الهامش المفترى عليه، المرتزقة الكذبة الباحثين عن المناصب بعد تخويف مخابرات المحاور لهم بالقتل وزرقهم بالمظاريف الشحمانة وحتى هم سلام مسلم ولا يملكون سلاحاً، وليس حسب بل لا يملكون حتى سكاكين ضراع!
أمثال لومومبا وسنكارا لن يكررها من ينظرون لأيادي شيوخ بيارات النفط تحت التأجير الدائم للغرب والأمريكان۔!
*****
قاسمنا طلبة الجامعات التونسية البرندة الطويلة في البيت والتي ينتهي حائطها الغربي عند مدخل المطبخ الضيق حيث ثبت شنكلاً في الجدار كان يعلق فيه سيد أحمد الحسين كما سمعت من قدامى المعتقلين، وهو نفس المكان الذي شهد حملي لجركانة الوسخ المقددة فوق مقام الرأس لفترة طويلة وظل طوكر أمامي يلهبني بكلام تعلمجية الجيش البذيء والغير إنساني.
التوانسة يغنون الليل كله مالي أراك تكرهين الجنة وصويحباتها من اغاني التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
يذهبون في الفجر، نفس الساعة التي "تصحي" فيها حبوبتي البنين لعمل الشاي، نفس الزمن الذي يفرح فيها حمامنا ما أن يسمع حركة ابوي في الخارج يجهز في علوقه، وفي طشت المياه النضيف، نفس الزمن الذي كنا ننتظر فيه البص زمان بأم سنيطة ونحن أطفال في طريقنا لزيارة الأهل ناحية الشاوراب.
ويأتي _التوانسة_ في منتصف الليل وعليهم أثر التدريب العسكري الشاق.
ليعيدوا الكرة بكرة في نفس الأوقات من جديد.
****
لا تدعهم يهزمونك..
ستكون غير جدير على الأقل أن تتكلم باسم تنظيم لطالما صمد وقدم فيه ناس/ وناسات كتار بطولات لا تعد ولا تحصى.. ستهزم حتى مزارع هناك يبحث عن موية لزرعه وسب اباً عن جد لجان الموية في المشروع والآليات والتركترات والحاصدات والسكة حديد وآلات المحالج التي وزعها الكيزان السفهاء فيما بينهم وتشخص أبصارهم تعاين وتسأل في كل مكان، هل من مزيد؟
كل شيء كان قاسياً وما زال..
كل شيء كان مبكياً..
"كأننا لسنا من هذه البلاد
كأننا لم نقدم لها شيء"
****
شفتو الحلب ديل؟
وكان "النور" يشير إلى جمع التوانسة:
- ديل لقيناهم في الصحراء انهبو في الرملة حقتنا وانتو عاملين لينا طابور خامس يا كهن يا ملكية يا أنجاس يا متمردين، الكلب ضنبو أصلو ما بنعدل، الله أكبر عليكم وعليهم.
****
كانوا بؤساء، حيوات مغدورة، الغدر الذي استهدف أعز ما يملكه الإنسان من شرف وبسالة ورحمة رحيمة فتحولوا إلى مسخ وأشباح غير جديرة بالتعاطف الإنساني الطبيعي، أنه لأمر م5سي أن ترى بأم عينيك كيف تحول هذه الأيديولوجيا الدينية المجرمة الإنسان إلى مجرد قاتل.
التعذيب لا يعادله معادل، التعذيب أقسى وأمر، وممارسه لا يمكن أن يدرج تحت أسرة البشر، كانوا وحوشاً كاسرة لا يرعون حرمة البني آدم، كنت أبكي من الوقوف الطويل لكبار السن، الفارغة المؤذية والتي تخصص فيها كل الحراس مثلما بكيت لاحقاً في بيت أشباح المحالج بالحصاحيصا من شيخ أربجي الكوز وهو يقول:
_هوي يا ود الممرض الممرض..
الممِرِض..
كاسراً للميم والراء محاولاً التقليل من شأن هذه المهنة العظيمة.
والتفت إلى الضابط ياسر يوسف يسأله:
_ليه ما جبتو معاهو ابوه..
وواصل:
_هوي ااود الممرض۔ نحنا اثنين في البلد دي ما دايرنهم، الشيوعي واللوطي، والأغرب أنه وابنه من ممارسي هذا اللواط.
(11)
"إن كان الموت هنا فهو
دائماً يجيء ثانيا
الحرية هي الأولى دائما
_الجوهري_
يانيس ريتسوس
****
_ يلا اتخارج يا خ۔۔۔ل، النشوفك تاني في الجامعة ساي خليك في أركان النقاش، وأقدر أمش قول سوو لي وعملو لي، المرة الجاية بكتلك في محلك ما بجيبك هنا انك امك وانك أم الجبهة الديمقراطية۔ يلا غور يا كلب۔
ورماني بفردة شبط بني جديد كان ينتعله،
قلت له:
- ما عندي قروش..
قال عبد الغفار بينما هو رافع كرعينو فوق للتربيزة:
- اقرش حلقومك، امشي بي كرعيك، امرقوا من هنا ولو اتلفت سااي ادو طلقة.
وأصدر عويلاً طويلاً من البذاءة، من النبذ الغير معقول قي بذاءته- النبذ البتكون داير حين تسمعه ان تهشم فاهه ۔اتذكر أنني شعرت بعيوني دافئة شديد كأنني في مواجهة نار.. وكنت غير قادر على التحكم في عضلات وجهي وكنت غاضباً بشكل لا يمكن تصوره، وفكرت جدياً في قتله.
كان مسدسو مرمي أمامه كلعنته والحراس الاتنين بكلاشنكوفاتهم يتبارون أمامه في إبراز قلة الأدب.
فكرت:
- سيكونون أسرع في اطلاق النار.
نعلت حظي لأن الإهانة التي أهانني بها لا يعادلها سوي تحقق موته.
****
وإمعانا في إذلالي خلاني في الانتظار لفترة طويلة كنت استدعى من مكتب الاستقبال في كل مرة لأسمع فاصلاً من تهديدات القتل والبذاءة وارجع لأعاد إلى أن فرش الليل أسود ملاياته على الاطلاق۔ تعرق كيس الجيلاني في يدي۔ الكيس الذي يحمل روح محمد بابكر۔ كان في يدي كمحفظة أم حريصة.
وليس هناك أحداً غيرهم، جمع للمجارمة وكتالين الكتلة، ولا شيء يمكن أن تشوفه سوي السلاح وبعض الشجرات الحزينة.
- ادو الش۔۔۔۔ط ده خمسة جنيه أو خمسة ألف لا أعرف،، وسألني:
- حتمشي وين يا كلب؟
قلت:
- سعد قشرة.
قاليهم:
- وصلوا ابو جنزير.
قلت ليهو مافي مواصلات اسع..
خليهم اقطعوني الكوبري وأنا بمشي بي كرعي، فأرعد وأزبد كيف عن لي أن اديهو أوامر، لم يكن بوسعهم ضربي لدرجة تعليم جسدي، لكنهم تركوا جرح بصديد أكال في روحي..
كانت الساعة فوق الاتناشر بالليل، كنت لا اسيطر على ارتعاش جسدي وحسيت بغصة في حلقي كأنها سكين وفكرت في لحظات أن أهاجمه لأقتله، وحين لاحظ ارتعاشي،
صاح في وجهي:
_انت يا كلب عيان ول شنو؟
قلت:
- لا ..
رموني في ابوجنزير وحيداً۔ لم يكن هناك أحدا۔ قلت سأمشي بي كرعي لكن خفت من رصاص الدوريات التي تجوب المنطقة فبقيت في محلي بالقرب من الضريح لأكون برفقة "ليالي" صحي ما أن سمع صوت خطواتي التعبة..
عادوا بعد أقل من ساعة، نفس البوكس الذي حملني إلى هنا ونفس الجنود شلتو "الليالي" بعنف فاكتمل صحوه مفزوعاً وسألوني:
- داير تجندو يا وهم۔ ااء؟
يلا اركب، ركبت ولا أعرف إلى أين هم ذاهبون، قلت في سري:
- كل مكان حتى لو مكتب الجهاز هو أكثر أمناً من رعب الخرتوم بالليل.
قطعوني الكبري وحين استوقفتهم لأنزل قالو لي:
- وين يا زول؟ نحنا مودنك الخلا.
وحين باصت العربة محطتي، عرفت أنني ربما في طريقي إلى مكان آخر، لكن، في المساحة الصغيرة التي تفصل شمبات الحلة من الظلط، استدارت العربة ليقول أحدهم:
- بنوصلك لي حدي سعد قشرة..
العساكر ما حيخلوك الدنيا كلها دوريات!!!
*****
رموني في المكان الذي يحتله الآن البنك السوداني الأردني بالضبط سرت قليلاً إلى الجنوب ووقفت تحت ضلام شجرة المحطة۔ تحت ضلام بنك فيصل ۔ كنت مرهقاً وفي حالة هي أقرب لليأس المميت، تحت شجرة النيم، كنت أشعر بحمي وبدا الجو بارداً بالرغم من الصيف.. كنت حزيناً أبكي وابتسم، ابتسم وأبكي ولا أحد ليواسيني، فخفت من تبدلاتي هذه فبكيت لأنني لا أريد أن افعل هذا أمام أهلي، بكيت لأخرج المرار الذي في حلقي، الأسي من روحي وهذه الدهمة التي في صدري وكان إحساسي إحساس الشافع الدقوهو وما قدر اتسدَ، حسيت بضيق شديد في النفس وبلا جدوى الحياة.
نعم بلا جدوي الحياة..
كل شيء إلى رماد إذا لم يعاقبوا، إذا لم يحاسبوا..
أو
"لن يبقي في الوادي سوى الحجارة"
*****
ولم ينقذني في هذه الليلة من الموت إلا اشتياقي لوالدي ولأمي لبحر ولغابة ما زلت اتذكر كيف اجدبتها الكراكات والبوابير فانفتح في شرق حلتنا على الأفق المشمس بياض مصنع سكر الجنيد بأكثر من انفتاح احمرار جرح روحي الخاص.
لساعة ويزيد، جلست في الارض أتأمل الشارع وقليل المارة، كانت مشاعري مختلطة ومجوبقة فرحان وحزين، حزين وفرحان، الهواء العليل مؤذي، تمنيت لو أن كل شيء كان كذبة حكوة حزينة وخلاص لكنها كانت حقيقة مبكية، تمنيت لو عماري الجمري فاتح، كان مقفولا، قلت لأحد المارة أديني سفة، وأداني سفة لم أقوى بعد خمسة دقائق من "سفها" أن أنهض على قدمي۔ جلست على كيس جيلاني الذي يحمل قميص النقابي محمد بابكر، وأقسمت لنفسي بأن احتفظ بهذه الهدية من عم علي إلى أبد الأبود لكن عري الرجل الذي يرتدي بنطالاً متسخاً فقط جعل من قسمي بالحفظ مجرد تكلس روحي سااي.
****
فكرت في حمل السلاح، بل فكرت فعلياً في تنظيم جناحاً للانتقام۔ للقتل المقاوم الذي سيكون غير مسبوق في تاريخ البلد..
نعم
*****
هذا دم كثير لا يغسله إلا دماً مثله، قتلوا روحي وأهانوها إهانة بالغة ودفعوها أكثر لمقام الموت والانزواء.
****
۔۔۔ودائماً كان عقل الحزب الجمعي يردك إلى صواب الطريق أو إلى ما هو أقرب إليه.
****
بدت الخرتوم فاتنة۔ لأول مرة أحس بالاشتياق لها۔ وتمنيت لو أن لي ذراعي "عق ابن عناق" لأضمها، لأحضنها وددت لو اهمس في "أضانها السمحة" بالجيش الذي يعدونه لاغتصابها۔ كأنني أنا وحدي من يعرف حجم الجريمة كأنني أنا المعذب الوحيد الذي نجا من هولوكوست الإسلاميين القتلة، فاتنة بدت لي، وسط جبال القمامة وانهيار مؤسسات الدولة وإعداد المافيا لنفسها لتحكم وسط الخراب، فالعصابة لا يمكن أن تمارس نشاطها إلا بهد كتف التأسيس والمؤسسة، إلا بإشاعة الفوضى وإهمال حاجة الناس والبلد فغزة وتركيا وحماس والبوسنة أعز عند الكيزان من سالو وكالو كتينج وكادوقلي وهيا وأبوحمد!
*****
عند مروري بالكاملين العبدلاب تذكرت جدي ود حبوبة تحت ظل شجرة ما غرب الكنار كان في انجمامته من تعب اليوم الفات، وشفت معه جدي ودالسايح وتخيلته مشنوقاً يحفه وقع رايات مناديل قصيدة أخته رقية.
******
دماً كثير سال
لا تنسى ذلك
ولاماني هذا الدم انتصر..
في نواصي كل الدروب ختت بنابرها تنتظرني،
يا حبيبي..
فاهمهم في صمتي
يا حبيبتي..
كان الظلام حالك شديد
وهذا ما جعل من بريق ابتسامها مهرجان ضوء عظيم.
*****
لم أنم في تلك الليلة، كنت أكتم بكاي كي لا يسمعوني غطيت وجهي بالملاية كلها، البكاء دون صوت وقيعة لموت اخر، ولاحقاً، حين وصلت بيتنا كنت ذاهلاً اتخير أخر الليل لأبكي وكنت ابكي في الحمام لوحدي فأدخل في نوبة لا أعرف بعدها السيطرة عليها، ما كنت داير اقلق زول خاصة والدي بحكم وضعه الصحي بأكثر من القلق الذي عانوه أو عاناه.
نزلت من السرير، كان العادي هو أن افترش الأرض عشان أنوم، وحتى في الأرض لم ارتاح للمخدة فتوسدت يدي وتذكرت أصحابي هناك،
كيف هم الآن عم فوزي، عم علي، صلاح العالم، وانور ودالحوش، ومحمد القاضي، وابشنب د.
كامل إبراهيم حسن.
وحين صحوت الصباح كان رأسي۔ يدودو۔ مصدع، الصداع الذي لم يفارقني منذ ذلك الوقت إلا لماما، أنا في مكان لا أعرفه، وسط ناس بدون ذكريات مشتركة معهم، وجوه غريبة أتعرف عليها للمرة الأولى.
(12)
في الرابعة صباحاً تحولت لجوار ميدان عقرب، غلبني أن ادخل البيت وهو على بعد خطوات مني، كنت جوعان لكن بلا رغبة في الأكل وعطشان إلى أن تيبست شفاهي الغليظة. الذي معي من قروش عبدالغفار لا تكفي لحق تذكرة الحصاحيصا، لم يخطر في ذهني الذهاب إلى بيوت زملاء الدراسة ۔۔ نمت على مصطبة محل مقفول، وحين صحوت ظللت أزرع المسافة من مستشفى بحري إلى سعد قشرة مرات ومرات، أعاين في الوجوه المتعبة والعيون الآسيانة والناس الجارية والمباني كأني في بلد لا أعرفه. بين شعب اشوفه للمرة الأولى. ليس لي مكان لأذهب غير بيت أهلنا في سعد قشرة. بلغ بي التعب حده الأقصى، عديت النهار والعصر وبعض الليل اتجول بلا رغبة في ملاقاة أحد. شربت شاياً عند امرأة في سوق بحري بلا زبائن كسرت الوقت من بوابة عد أعمدة النور إلى أن يغيب آخرها عن ناظري، عددت المارة أمامي. وكنت أغالط روحي إذا ما كانت العربة القادمة بها كتابة ورا أم لا؟ فالتفت مع مرورها لي لتأكيد حدسي فأتعثر بالحجارة والحفر..
فهتفت داخلي:
- المجرمين يحفرون الأخاديد في قلب الإنسان فكيف يمكنهم ردم حفر المماشي والزلط..
صارت بحري كوم من تراب، بحري التي كلما يرد اسمها يقول ابوي بفخر:
_ بلد سعودي دراج..
وحين عرفت نضاله وروحه وغناءه وصموده الأسطوري بان لي كيف يكون الإنسان عبيراً للأمكنة، دلالة مجيدة لاسمها ولروحها ل "تحريرها" و"كوبرها".
بحري متربة وحزينة كروحي وقتها۔ وددت لو أصرخ بعلو الصوت في الناس:
- أنني أحبكم، لم أفعل شيء سوي أنني قلت كلام حق في وجه مأجور ظالم.
*****
وقفت طويلاً قدام بيت العزابة، طويلاً وقفت، ترددت وهممت بالرجوع لكن خاطراً مفاجئ بان والدي ليس بخير جعلني ارفع يدي لأسحب السلكة التي تستخدم كترباس للباب الآثري القديم تعثرت في بمبة صرف المياه تحتي ووقعت بينما نجي كيس الجيلاني في علاهو۔ القميص۔ الدليل الذي بين يدي بأن محمد بابكر قد مر من قبو الأشباح الذي مررت بعتمته وبعفنه ودماءه وصرخاته وويله وثبوره،
أقلني أبوعلامة في الصباح، صباح اليوم التاني لخروجي من الاعتقال بعربة الديش إلى السوق الشعبي، دس في جيبي مالاً كافياً، وشربنا شاياً بلقيمات قبل أن يتركني ويعود ناهباً طريقه إلى القيادة العامة حيث يعمل وقتها.
(13)
"الاخيرة"
في السوق الشعبي استعدت بعضاً من توازني النفسي لحظتها لكن كانت "فرحتي" تشبه فرحة البنة في نطتها من المقلاة للنار..
فرحة من تجاوز جدولاً حسبه الأخير فامتد أمامه محيطاً من المحيطات.
والشوق أمام المحبين طبيبهم وصلاتهم وحجهم وكتابهم المخصوص، الشوق وحده حينها كان سيدي ومولاي وشيخ طريقتي، الشوق العادي للأهل وللحلة ولمكتبتنا ولشارع الظلط ولملاح رجلة مسبوكة من يد أمي ولقعدة في ضل مشارف على الرحيل ولأصحاب الطفولة، أصحابي، للفضاء اللامتناهي غرب حلتنا مفروش بالقمح ولا رغيف! وبالفول ولا شيء لمسوح ليالي الشتاء القاسية المشققة للأقدام والخدود وظاهر اليدين!!
لفيت لساعة وأكثر شربت كباية ليمون من الأكشاك العتيقة، كانت هذه عادتي في السفر، كانت عادتي المحببة، أهدا لو كنت متوترا، إلا أنه لم يفعل ذلك حينها، كانه دواء منتهي الصلاحية، حبي لليمون هو سر عشقي لشجرته ولنوارته، أنا "الوحيد" الذي ادرك جيلي عبدالرحمن الذي حنس الصادق المهدي تحنيساً ليمد له يد العون فابي فرحل الفارس وجواده وبقي سيفه السليم التام يشير به وكله سؤال من على حدود جزيرة صاي:
- أين أخفوا زهرة الليمون والعطر حدائق؟
الأشعار سندتني وأنا أقاوم، الأغاني الرائعة العذبة لأجيال الفنان الذري وجماعيات دار حامد في أعراس الليل المقمر في حلة نازحيهم النائمة على صفحة شارع الزلط مخاوية حلتنا، نضالات زملاء الجامعة، المختفين الحزبيين من أعين السلطات، عيون الرفيقات الحانية، وبسالات الحمر في الحرب العالمية الثانية، كتابات مروة، أصوات الوضوح الصوفي المشرق في كدباس ومداراتهم "العلوية"، وإشارة ماركس لعمالة الأطفال القاسية في مصانع لانكشير حتى وصف حال استغلالهم بقوله الرائع "الأسرة التي لا تبرد" أي تنام وردية الأطفال لتصحي فتحل أخرى في ذات الاسرة وردية تانية من الأطفال لتنام!!
غضب غضب كأنهم في المنطقة الصناعية بحري حيث عملت لاحقاً
عاينت في المانشيتات العريضة للصحف، كل الجرائد كاذبة، كلها علي اطلاقها، فالتهب جرح غضبي الفاتح أصلاً من جديد.
******
تفقدت السوق، تفقدته، وعاينته معاينة المهندس الموفد بغرض التفكير في شراء المكان،
واحسب انها خصلة البني آدم في إعلانه عن إلفته وفتنته بتفاصيل حيز ما..
لا جديد، لا جديد، الشمس ذاتها تلهب الناس والحجارة والعربات بسياط العنج كالعلوج الذين كفروا بالحياة حتى انفلتت روحهم عن مدارها الإنسانوي فأصابت عيونهم بنيازك الورع الكذوب ومدت أيادي حلاقي الدقون أدواتهم لحفر علامة الصلاة الكاذبة لرب ليتهم ليتهم لو يعرفون ولو في لحظة عابرة كم الرحمة والإباء والمحبة الذي أراد أن يفيضها بيننا كمخاليق له، لا جديد سوى مباني أسمنتية متوحدة لمقاولين غشاشين لا يجيدون وضع اللمسات الأخيرة، الطوب مجدع في كل مكان، أكياس أسمنت عطبرة النافدة حاضرة، السقالات المتكولة على الحيط المائلة التعبى، براميل المياه القذرة في بلد مخددة بالأنهار والمجاري، الأسلاك الزائدة في الصبات بلا داعي للتمديد وبقايا مواد البناء تملأ المكان، البناء الذي سيخصص للصوص ولمن غطى عينيه عن كل سوء ارتكبه الهولاك المسلمين، ستمنح كهبة، عطية لمن شارك في أو صمت عن أوسع جريمة يشهدها وسط البلاد!، لأن أطرافه، شربها الإسلاميين من مرار إناء الموت، نفخوها بسموم فوهات الرشاشات الجبانة، نعم، الرشاشات الجبانة، الرشاشات الجبانة، التافهة.
لأن هناك ثمة رشاشات في كامل الاحترام والشجاعة الوسيمة حين تتوجه لصدورهم الحاقدة بحكم القانون.
******
صوت الباعة المنادية على البضائع في كل مكان.. السوق الشعب.. إنه السوق الشعبي وكفى.. البنات المسافرات بدون كثير وجاهة..
قلت لروحي:
- الوجاهة عندهن في أن يصلن البيوت..
الزحام الوحيد، الوحيد المحبب لي.
لفيت واللهي،، لفيت ولفيت.. سوق الحرامية "الابيض"، "المرحوم أكان لبيس" ومحلات خياط الخيام، وعلى مقربة مني بيوت مايو، كل بيت يسند التاني، يتكله فهو "لمينتو"، في إلفة عجائبية مسافة الشارع الفاصل هو حزنها الشامل الكامل الوحيد.. ذكرتني محلات خياط الخيم، بخيم العزاء، لقد كنت في عزاء ممتد طويل، زي حبل بير الصمد، وقريت اسم كل محل وقع على عيني، قريتو جيداً، واتكيفت في كل مرة وجدت مدلولاً لاسم يشير إلى علاقة ما مع طبيعة نشاطه التجاري، واستدركت حقيقة:
- حتى مخيلة الكسب لا تخلو جعبتها أحيانا من التفرد!
******
وبعد العاشرة بقليل۔ بعدها بأقل من ربع ساعة، توكلت لأركب سفريات المتوكل، النيسان الزعلان، بدأ لي نيسانهم كانه دبابة، زوايا الحديد الحادة مع المقاعد وفوقها ضد سلامة الركاب، لا أوصاف ولا مقاييس ولا ايو حاجة، وهمهمت داخلي:
- من يبيع اللبن الفاسد للأطفال لن يهمه شيء آخر.
النيل على يساري، يختفي ويظهر كأنه مراية بيد شفع يتساككون، والأرض هي ذاتها لو زرعت فيها زول سيقوم وينمو ويترعرع، والفضاء من خلف النافذة رحب وواسع وليس ضيقاً كما أراد له كتالين الكتلة المسلمين.
مليان آسي وأنا أفكر:
- كيف لنا كل هذه الأرض هشة كبسكويت ونجوع.
لم أتكلم طوال الرحلة التي غنى فيها السيد خليفة، غنى وغنى لم أتكلم، كنت أعاين في فضاء البص كأهبل، تائه، تائه.. ينتهي السيد خليفة فيبدأ السيد خليفة نفسه من جديد، كنت مرعوباً بحق وكنت خائف من ملاقاة الناس في نفس الوقت الذي اشتاقهم فيه، وتغشى بين الحين والآخر جواي رغبة أن تطول الرحلة ولا أصل، تطول وتطول ايوا..
ألا أصل أبداً، كنت بردان ارتجف وتصطك أسناني في عز الصيف.
وتصورت نفسي وهذا صحيحاً كمهزوم.. بلا داخل يعج بالمساندة.. لم اشعر كمنتصر، بل حسيت أني مهزوم ترك معاركه كلها وجا راجع دون أن يدفن الأجساد القذرة لأعدائه في التراب!!! دون ان أخددهم بالمدى والسواطير، دون أن أقتل من أهانني، وحدثت روحي:
- المك نمر اشطر مني،،
اشطر مني المك نمر..
أهانه اسلافهم فأهانهم بالموت، بالنار، بالشرر، اختلف الناس في أمره، لكن لن يجرؤ أحداً من نسله أن يكف عن لعنة الإخوان الدفترداريين.
جيت راجع دون أن أدوس أنوفهم بالأرض، بكيت وتمخطت وسط استغراب جاري الأربعيني، جيت راجع دون أن أمرمطها أمرمطها كدي كدي في التراب.
*******
لم أملك بعدها إلا أملاً يتراقص كمياه الرهاب أمامي، يجيء ويغيب، يغيب ويجيء، يلمع ولا يختفي أبداً كمياه النيل يساري، نعم لا يختفي، الشعب سينتصر وبصحبتي كيس بلاستيكي في حجري يحمل القميص الأبيض.
- خلاهو لينا قال حتحتاجو ليهو.
احتجت له يا عم علي السخي سترني وإلاهي،، حين تمزق قميصي الأبيض بالسياط الملعونة ولونه الدم، سترني وستر مجهولاً عاريً كان يتجول في باحة مسجدنا بلا هدي.
******
توقف بص المتوكل قصاد بيت ناس الفكي ودالحبر، قصاد بيت ناس حواء الطيبة، الفكي السماكي اشطر من يطبخ شوربة القراقير الزاهية، نزلت وعاينت يدي لأتأكد أن قميصه معي.
كانت الساعة اتناشر ضهر والحلة تبدو خالية، كأنني أتعلم المشي، مشيت مشية المخمور، نائمة الحلة كشوال عيش مليان، مليان شوق أنا كمن جاء ليشاهد جدوداً قدماء، خائف، خائف كنت.. هجع المزارعين تحت ظلالهم، في حار ظلالهم هجعوا،
قبل أن توقظهم رنة ساعة الضهرية السريعة، هزم النهار الحار رغبات الشفع الشليقين في الحوامة والجري، الحلة ذاتها في محياها ورا الزلط الأوساخ المتكومة وأكياس البلاستيك الاكتشاف الأنعل في تاريخ البشرية كما قالت مرة إيمان، كنت حزيناً والله، اشعر كأنني محض عينين بلا قلب ولا روح ولا يحزنون،
حزيناً جدا، ليس حزناً من أحزان المتفاجئ بما حصل ۔ لا۔ حزين، حين فكرت في كيف ولماذا حصل ذلك بروح "جيابية" تحت ظلال عود أرز نحيل وهو يخطط لهزيمة اليانكي، وحزنت أكثر حين لاقيت أبوي، حضنني واكتفي بذلك دون أية إضافات أخرى. كأنه يرى طيفاً كاذباً في الأحلام۔ ليستدير راجعاً لكرسيه تحت الشجر كي لا أرى دموعه وأنا بلا مقدرة لأواسيه، لا قدرة لي على مواساة نفسي، شاهدت دموعه عشرات المرات، تحضره كلما يراني ساهما أو يقيس ضغط دمي فيفعل كل ما في وسعه لابقي حي، وقد أذتني كثيراً دموعه، أذتني كثيراً فاشعر بمقص حاد وبصدري سكاكين نافذة وسهلة المرور، أذاني حصاره المحبب لي كي أخرج من دائرة الموت التي أرادها الجلاد الإسلاموي الموتور.
الاعتقال ليس كالموت الدرويشي۔ الاعتقال يوجع "المعقول" ويوجع أحبابه ومعارفه الطلقاء.
أما إبرة أمي كانت فرحانة بخوف في نهاية خيطها، كانت تدفعني كل ثانية وأخرى للحمام لأنها تدرك جنوني بالمياه زي الحمامة، أدق الشطة الخضراء، وأساعد في مهام الطبخ الأساسية، أسالها عن أسرار واحد ما فتجيبني حتى صرت شيفاً ماهراً الآن، الأم دائماً هي المعلم الأول۔ المعلم الأول هي الأم وليس أرسطو تاليس..
طار حمامنا..
غطاني كسحابة في تجوالي لتفقد الشجر، فهبهب قلبي وانتفض كملاية فرحي بنسيم الحواشات المسقية سقية اأولى، أقسم بالله أنه يحتفل برجوعي، أنا أحب الطير، الشجر الزرع والنماء، وأعاملهم دائماً كبني آدميين، قلت في سري:
- يوماً ما سيتكلم النخل في بيتنا ليزيد وسامة الله في قلب عباده.
أحببت الحياة، أحب الكيزان الموت لخصومهم، وارتكبوه بلا رجفة لضمير أو وخز له بشوك الحق.
قلت:
- أنا ليس قاتلاً -كنت غاضباً۔ لن أبدو أمام معلمي أبوي اطلاقاً كمنتقم أو ساعٍ لذلك، نحن نسلمها لجيل وجيل يسلمها لآخر، لكن الثورة مستمرة مستمرة للأبد زي نار التقابة.
بغضب جعلني على استعداد لقتلهم بلا رحمة، دائماً كان الحزب يرجعنا إلى ديوان الحق والقانون والعقل من حظيرة الانتقام والجرم والإجرام.
لم أكن مافيا، لم انتمي في العام 1985 إلى جماعة "ساردينية" متخصصة في تخويف الزراع وقلع محاصيلهم، بل انتميت لمن ينادي بالداخليات للطلاب، ومجانية التعليم والعلاج وحرية البحث العلمي وبالغذاء والسلام الوطيد والديمقراطية الراسخة.
هتفت لنفسي:
- لم أكن مافيا ولن أكون.
مشيت اليوم داك في بيتنا، مسافة تجي من الخرتوم لي مدني، تأكدت من قفل كل المنافذ، الحمام لا يحتاج كديساً جديد، تأكدت من قفل الأبواب، واستدركت، لكنهم سيتلبون بالحيط حتى لو كانت عالية، سيطرقون الأبواب بشدة، بشدة وهم يتلفتون، العصابات الخائفة، العصابات المكممة، الأشباح المتحركة، الرجال الجبناء البلا "رجالة"، عصابات الحزام المجرم، يستفزهم أن تكون طيباً وإنسان وشجاع وعديل، واتقد الغضب تجاه عبد الغفار، أهانني كثيرا هذا الشبح الواطي، أهانني بما لا يمكن أن يتخيله خيال وأهان والدي مثلما أهان ألاف المعتقلين، لا شيء يستحقه سوى أن يموت بحكم القانون، ولن أقول -تأدباً بروح ديسمبر المسروق- حتى ولو خارج دائرة القضاء!!!!
*****
أنا لن أغفر۔
أنا ليس ملاكا..
****
تعرفت علي حبوبتي من بعيد فملأت زغاريدها المكان، حضنتني حتى انقطع نفسي وأنا أغالب الدموع، الرغبة في البكاء وحرصي في الإبتعاد عنه ما أمكن.
***
ليس هذا ثمناً للنضال!
النضال يجب ألا يكون بثمن مكلف وجسيم كهذا، لا تستحق روح لومومبا الرصاصات ولا جسده الفارع السحل، وعنق عبد الخالق الراشد يستحق عناقيد الزهور، صدورهم كان يجب أن تزين بنياشين البطولة، بكلمات من شكر وثناء ومحبة فلاقة يكون، النضال مثمن بكلفة العذاب عند شواطين الدول وعساكرها المارقة، وعملاء الأجانب، وكذبتها، على طريقة الإخوان بلا دين ولا خلق ولا سلامة في روح أو جسد.
كوابيس الليل كانت مشكلة ۔ تأتيني من كل فج عميق كأني كعبة وكأنها المسيرات تحج الي مكعوبها.
وحلمت أنني في طوة أذوب كسمنة متجمدة رويداً رويدا، ذاب رأسي وعضمي ولحمي وشحمي ولم يبقي فيَّ شيء سوى العينين مرعوبتين تسبحان ببياض نادر كبياض بصلة ملاح اللبن فوق "مياهي" تشاهد لوحدها الجريمة.
تكرر "حلمي" كثيراً، كثيراً تكرر وما زال لشهور ليست بعيدة، وفي كل كابوس كنت أموت ألف مرة ببطء تماماً كما كنت في كابوسي أذوب رويداً رويدا..
أصحو عرقان، أفتش عن نسمة هواء، عن ريح فلا أجد غير أمي.
- كدي قول بسم الاهي.
قول بسم الله قول بسم الله كدي قول بسم... ويهبهبني ثوبها، لا زلت أتذكر ريحتو۔ ريحة الأم عطر مدقشقري له طعم كطعم القرنفل العطشان، لا زلت اتذكر لون ثوبها الطوبي، وتمسك جبهتي لتقرا ما تحفظه من اللوح "المخطوف"، تقرأ وتقرأ وتقرأ حافية في حوشنا المشجر المعشب أنصاص الليالي وبدايات الصباح حتى أهدى وأعود لحالي.
وحتى لو بلغنا السبعين عاما، فإننا في حضرة الأمهات شفع لا بد أن يجبروا على شرب اللبن، أن يتغطوا جيداً من البرد، تشد ملايتك يميناً وتشدها شمالاً إلى أن يستقيم دفئك، تحرسك تأكل لتزيد وتأكل لتزيد ولو لها مراد لكفت عنك وعثاء المشي اليومي، ولابتلت بشقاء النفس النازل وطالع ولاسجدتك عل كف راحة دائمة مستديمة۔ ولكانت ظلال درق من جيوش الحر الحار ونار سلطة المتاسلم الغاضب بلا سبب وجيه.
*****
عبدالغفار وبيت الأشباح ومكاتب الأمن في القيادة ومباني العساكر والجيش التافه لطالما حلمت أن أكون طياراً لادكهم دكا مثلما دك الأوغاد حتى جحور الفئران في الجبال، ورمى الكلب هارون بجثث أهله الأشاوس في وادي العفن عراة لتنهشهم الصقور وكلاب الخلاء، جثث، وجثث فاحت رائحتها حتى سمي خيال الناس الشعبي الوادي بوادي العفن!!!!
زرع القوم الأودية بمحاصيلهم بينما زرع ذات الأودية أولاد الديش الكلب بالقنابل وقذائف الإنتنوف، هذا ديش يجب أن يحال إلى المعاش، يحال إلى المعاش لأن قادته خونة ومرتزقة وأولاد حرام، يجب أن يحال وتستلم قوة خاصة كل مقاره وسلاحه وأمواله، وتلغيه من الوجود، هذا ديش يجب أن يعدم قادته الكيزان ويدفنون تحت التراب لأنهم لم يرتكبوا الجريمة فحسب، بل هم الجريمة ذاتها تمشي على كرعين، لا مستقبل للبلد إلا بتقليم أظافر هذا الوحش الكاسر، المجرم، القذر، مرتكب المذابح والجرائم ضد الإنسانية والسامح وهو وكل سلطات العدل للمجرمين بأن يعملوا خارج دوائر الرقابة والقانون دون أن يقول لهم زول اووف.
*********
- ادردق ادردق ادردق يا كلب ادردق يا طابور يا كهنة ياخول...
وتتبعها السياط الهائجة..
- ما داير أسمع ولا آهة واحدة۔ اسع بنات صفية جارتنا ديل لو سمعنكم أقولن علينا شنو؟" هذا هو طوكر قليل الأدب الما مربى. لكن احقدهم كان عبد الرضي المسطول، ومقبول الذي قطع شوطاً طويلاً في أن يكون أسداً لا يعرف القانون، الكلب المتخصص في الإجهاد غير معقول للمعتقلين.
واجهت عادل سلطان وآخرين نكر الكلاب جهادهم، وتعذيبهم لنا، فكرت وأنا أتمعن منظره:
ما الذي يجبر بني آدم أن يكون كعادل قاسي وفظ وعديم رحمة وكاذب وضاحك على سبيل الغش والتدليس ومحاولاته المخجلة للإفلات من العقاب.
۔۔۔۔۔۔
في نهارية مشيت جهة الكنار، قلت أفلت من أسئلة الناس المشروعة۔ سيرة العذاب ليست من الأشياء المحببة لي۔ قعدت على حافته أتأمل المياه "الطامية"۔ والزرع وراي وأمامي لزراع في كامل الإجهاد۔ ذهلت من انتشار شجر المسكيت، نمرة واحد واتنين وتلاتة والشاوراب القديمة امحمد قصير وحاجة نانة ودلقا هناك تشرف بشجراتها القديمة لداخليها من كوبري ترعتها الصغير وعم عبيد ورغيفه في صناديق الشاي الكيني.
انتظرت مغيب الشمس، انتظرت مغيبها، وحين جر الليل ستاره عدت وأنا متأكد من حضور النهار، استعيد بعض من قدرتي علي المقاومة، مد لي الأصحاب والزملاء يد العون، الصادق وياسر وودالخلا بقوة المثال والتجرد والتفاني في خدمة الشعب، ومأمون وأسامة والسيرة الناضرة لعضوية وحدتي الجامعية۔ أبوي۔ وجدي امحدنور الذي قال لي:
- اها لمن اعتقلوا ابوك زمن عبود جا وفد كامل من ناس حزب الأمة، مشو لي أبوك بعربية الكندا اهاا، اتلملمو كلهم من الحلاوين والمحيريبا وحلة الشيخ البصير ومشو من هنا لي مدني، حكمدار السجن لاقاهم بأبوك قاموا قالو ليهو خلي الشيوعيين وتعال أبقى في حزب الأمة معانا أول بالتبادي بنمرقك وبنديك ستين جنيه فرفض وطردهم حتى وهم في مقام الأهل والأعمام.
اهاا قام شيطانم قال ليهم اجو لي جدك الماحي:
- يا الخليفة، يا الخليفة كيف حالك؟
كان جدي يجلس في تبروقتو والدنيا عصير مغيرب، وهو ماسك بلالوبته وقدامه المصحف الكبير، قالوا ليه:
- انت تمام.
قال:
- الحمد والشكر
وطوالي نادي لحبوبتي:
- ختي الشاي في النار.
ابتدر القوم الكلام:
- يا الخليفة الماحي كيف انت خليفة قدر الدنيا وحافظ للقران وولدك ابقى شيوعي كافر.
قال ليهم ولدي منو؟
امحمد؟
قالو ليهو أأي؟
قال ليهم امحمد البفرش لي مصلايتي واجيب لي الأبريق للوضوء والبقعد قدامي هنا أقرأ في الكتاب؟
قالو ليهو أأي ذااتو..
قام قال ليهم وهو يجر عكاره المضبب:
إنشالله أبقى لوطي انتو شن شغلتكم بيهو وعلي الطلاق لو انتو ما في بيتي كنت فلقتكم واحد واحد.
ونادى بغضب شديد:
- يا البنين يا البنين
أطفي نار الشاي.
۔۔۔۔
ليس لدي الآن شيء لهم، أنا في سبيل مقاومتهم للأبد، من نفس الباب الذي جئتم منه وليس من غيره،،
لكن تذكروا..
"لا يلقي الشر سلاحه حتى يلفظ أخر أنفاسه؛ فهو لا يعرف الصلح والمهادنة أبداً"
نورث داكوتا
مارس/أبريل 2021
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.